من الترتيل إلى التفعيل: كيف نبلغ مقام “صالحًا ترضاه”؟

(سلسلة إحياء فقه تدبر القرآن)

جلسنا نتدبّر كتاب الله، فاستوقفنا هذا الدعاء الخاشع الذي لم يرد إلا مرتين في القرآن:
﴿رَبِّ أَوۡزِعۡنِيۡ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ﴾
[النمل: 19، الأحقاف: 15].

تساءلنا: لماذا قال «صالحًا» ثم أضاف «ترضاه»؟
أليس كل عمل صالحٍ مرضيًا عند الله؟
أم أن وراء هذا التركيب القرآني سرًّا من أسرار الإخلاص، يُفصح عن بُعد خفي بين ظاهر الصلاح وحقيقة القبول؟
قلتُ لصاحبي: هل تدري أن هذه العبارة «صالحًا ترضاه» لم ترد إلا في موضعين من القرآن الكريم؟

الأول في دعاء سليمان عليه السلام:
﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكٗا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾
[النمل: 19].


والثاني في دعاء الإنسان عند بلوغ الأربعين:
﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنٗاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗا وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرٗاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ﴾
[الأحقاف: 15].

فما السرّ يا صاحبي وراء هذه الزيادة؟
قال وهو يتفكّر: – إنها تذكير بأن ثمة فرقًا بين العمل الصالح في ظاهره وبين العمل الذي يرضاه الله. فقد يكون صالحًا في عيوننا، لكنه لا يبلغ مرتبة الرضا إلا إذا خلصت النية، وصَفَت الإرادة، ووافق ما يحبه الله لا ما نستحسنه نحن.
قلت: – نعم. دعني أصوِّر لك المشهد.

رجلٌ يمشي في يوم مجاعة، والبطون خاوية، والعيون زائغة من شدة الجوع… فإذا به يوزّع على الناس قصصًا وكتبًا. عمله يبدو حسنًا في الظاهر، لكن أيُّ معنى للكتاب مع جوعٍ يفتك بالأنفاس؟ إن الصالح المرضي أن يُشبع البطون أولًا، ثم يفتح العقول بالعلم والمعرفة.
وتأمل آخر، يبني مسجدًا فخمًا مزخرفًا في قرية عطشى، يتباهى الناس بجماله، لكنهم في طريقهم إليه يتساقطون عطشًا ولا يجدون ماءً يرويهم. أليس الأجدر أن يحفر لهم بئرًا يسقيهم، ثم يبني مسجدًا ليعمره الأحياء الذين أُحييت قلوبهم وأجسادهم بالماء؟

وانظر إلى من يتصدق بالأموال علنًا، يصفّق له الناس ويهتفون بكرمه، لكنه في السماء قد لا يساوي شيئًا؛ لأن نية المدح غلبت على وجه الله. بينما رجل آخر في خفاء الليل يضع رغيفًا في يد يتيم، لا يراه أحد، فيرفع الله عمله فوق أعمال المعلنين.
ثم ها هو مشهد آخر: قوم يرفعون الشعارات في حب النبي ﷺ، يزيّنون الشوارع بالأضواء والطبول، لكنهم لا يقتدون بهديه، ولا يسيرون على سنته. أما من أحب النبي حقًا، فذلك الذي يتبعه في أخلاقه وعبادته وجهاده وصبره، ليصدق فيه قول الله: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ﴾ [آل عمران: 31].

عندها قلنا: إذن فبين «صالحًا» و«ترضاه» مسافة من النور لا يقطعها إلا المخلصون، هي مسافة النية والصدق، التي ترفع العمل من صورة جميلة إلى جوهر يرضاه الله.
وهكذا اجتمع دعاء نبيٍّ ملكٍ مؤيَّد بالوحي مع دعاء إنسان عاديٍّ عند بلوغ أشده، ليعلّمنا أن الطريق إلى الرضا الإلهي واحد لا يتغير: الشكر + العمل الصالح المرضي.

كيف نرتقي من “الصالح” إلى “الصالح المرضي”؟

1. الإخلاص في النية: نبتغي وجه الله وحده

2. مطابقة العمل للشرع: لا نعمل إلا بما شرع الله ورسوله.

3. فقه الأولويات: نقدّم الأشد حاجة والأكثر نفعًا.

4. الاستمرارية: نحافظ على ثبات العمل لا اندفاعه المؤقت.

5. مراجعة النفس: نسأل دوماً: هل يرضى الله عن هذا العمل؟

إنها دعوة لنا أن نرتقي من الترتيل إلى التفعيل؛ من مجرد تلاوة دعاء على الألسنة، إلى تحويله منهجًا حيًّا في الحياة، فنختار العمل الذي يرضاه الله لا الذي يرضي أعين الناس، ونحوّل القرآن من ألفاظ مرتّلة إلى أفعالٍ مُفعّلة في واقعنا.
اللهم اجعل أعمالنا خالصةً لوجهك، صالحةً ترضاها، ولا تجعل لأحدٍ فيها نصيبًا غيرك.
اللهم اجعلنا من الشاكرين لأنعمك، المخلصين في طاعتك، التابعين لنبيك ﷺ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

د/ عصام الجبوري
عضو الشبكة المقاصدية

Start a Conversation:

Your email address will not be published. Required fields are marked *