(سلسلة إحياء فقه تدبر القرآن)
في هدوء الليل، وقد خفتت الأصوات، وأوشكت العيون أن تستسلم للنوم، التفت إليّ ابني الصغير وقال بصوت خافت:
– يا أبي، لماذا أوصانا النبي ﷺ أن نقرأ سورة تبارك قبل أن ننام؟
ابتسمت، ومسحت على رأسه، وقلت:
– لأن يا بني، هذه السورة ليست مجرد تلاوة قبل النوم، بل هي وصية من رسول الله ﷺ أن نملأ قلوبنا بروح القرآن قبل أن نضع رؤوسنا على الوسادة. أراد أن يعلّمنا أن الليل موطن الخلوة، وميدان الصدق، واختبار الخشية. إن تلاوة القرآن ليست أصواتًا تتردد فحسب، بل نفحات روح، توقظ ما خبا، وتنعش القلب حين يذبل، وتعيد له صلته بمولاه.

سورة تبارك… تلك السورة التي أوصانا بها الحبيب المصطفى ﷺ أن نقرؤها قبل أن نستسلم لنومنا، أن نختم بها يومنا، وأن نودّع بها صحائف أعمالنا قبل أن تُطوى في الليل.
لكن، هل تأملنا يومًا: لماذا هذه السورة بالذات؟
لماذا اختارها رسول الله ﷺ لتكون رفيقة لحظات السكون، حين نضع رؤوسنا على الوسادة، وتغيب أنوار الدنيا من حولنا، وتبدأ خلوتنا مع أنفسنا؟
هل خطر في بالنا أن هذه السورة ليست مجرد تلاوة ليلية، بل رسالة تربوية خفية، بلاغ نبوي، يُراد به أن نبني شيئًا في داخلنا كل مساء؟
ليست “تبارك” مجموعة من المواضيع المتفرقة، كما قد يظن قارئها لأول وهلة، بل هي نسيج متماسك تدور فيه كل الآيات حول مقصدٍ محوري واحد.
وتكمن الآية المحورية التي تربط المعاني، وتنسج الخيط الرابط بين مشاهد الكون، ومواقف القيامة، ومصائر المؤمنين والكافرين، في قول الله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12].
إنها خشية الله في الغيب… أن تؤمن حين يغفل الناس، وأن تراقب الله حين لا يراك أحد، وأن تذكره حين يسهو الخلق، وأن تنام على يقين بأنه مطّلع على سرك كما هو على جهرك.
حين تطفأ الأنوار، وتغلق العيون، وتستسلم الأجساد للراحة… يبقى قلبك في امتحان.
هل يعيش على وعيٍ أن الله يراه؟
هل يخشاه، وإن غابت العيون والأبصار؟
هناك فقط تُعرف القلوب، وتُوزن الأرواح.
سورة تبارك تربّي المؤمن على هذا المقام الرفيع: مقام الخشية في الغيب.
ولهذا كانت وصية النبي ﷺ بها قبل النوم، لا لأن وقتها ليل، بل لأن الليل هو موطن الخلوة، وميدان الصدق، ومختبر الخشية.
إنها تذكير كل مساء بأننا لا نحيا بإعجاب الناس، بل بنظر الله…
وأننا لا ننجو بكثرة العمل الظاهر، بل بصدق الإيمان في مواضع الغياب.
فاجعلها رفيقتك…
لا لفضيلة التلاوة فحسب، بل لأنها مدرسة إيمانية تُخرّج عبادًا يخشون الله بالغيب… أولئك لهم مغفرة وأجر كبير.
إنها خشية الله في الغيب…
حين لا يراك أحد، حين تسكن الجوارح وتبقى وحدك مع الله، حين تختبر حقيقتك بعيدًا عن أعين الناس وأصوات المديح… هناك، في الغيب، تُعرف قيمة القلب، ويُوزن الإيمان وزنه الحقيقي.
تُعلّمك هذه السورة أن النجاة ليست في الظواهر ولا في مظاهر التدين، بل في خشيةٍ صامتة، صادقة، لا تراها العيون، لكنها تضيء لك الدرب في الدنيا والآخرة.
ولهذا… كانت سورة تبارك آخر ما يسمعه قلبك قبل نومك.
لأنها تُهيئك لأن تكون عبدًا يخشى الله حيث لا يراه إلا الله.
وتعدّك لأن تنام على يقين، وتصحو على عهد… أن تعيش كما يُحبك ربك، لا كما يُرضي من حولك.
فلا تجعل وسادتك خالية من سورة تبارك، ولا تكتفِ بترتيلها دون تفعيلها.
بل اجعلها دستورًا لحياتك: تذكّر أنك مخلوق للامتحان، وأن الله هو المالك، وأن الخشية في الغيب هي المعيار.
ولا تجعل وسادتك خالية من ذكر الله… املأ ليلك تسبيحًا واستغفارًا، حتى يكون نومك عبادة وصحوتك عهدًا.
وعلّم نفسك أن تخشى الله في الغيب، كما لو كنت واقفًا بين يديه في العلن. فالخشية الصامتة هي التي تحفظ القلب حيًا، وتجعله مضيئًا وسط ظلام الدنيا.
اللهم اجعل قلوبنا عامرة بذكرك، وألسنتنا رطبة بترتيل كتابك، وأعمالنا شاهدة بصدق الإيمان بك، وعلّمنا خشيتك في الغيب كما نخشاك في العلن.
اقرأ تبارك… لا لتنام، بل لتستيقظ.
د/ عصام الجبوري
عضو الشبكة المقاصدية

