الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد،وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد..

فإن فقه التزكية والسلوك  يعني: الفهم الدقيق بالنفس وأمراضها وعيوبها ومعرفة الطريق إلى تخليتها وتحليتها،للانتقال بها من الشرود والبعد عن الله تعالى إلى القرب والترقي فى منازل السائرين ومقامات العابدين،حسب توجيهات الوحي وصاحبه صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وحالاً وسلوكاً،للوصول إلى السمو الروحي والأخلاقي المنضبط والمتوازن،وهو مقصد من المقاصد العليا والحاكمة للوحي فهو لبه وثمرته وهدفه وغايته ومراده،وهو بمنزلة الروح للجسد،والغذاء الذي لا بد منه،فكما للأجساد غذاء فللأرواح وحاجتنا إلى غذائها وأعظم،لأن بصلاحها يكون الصلاح كله

فحاجتنا إليه ماسة حيث لا يمكن الاستغناء عنه بأي حال من الأحوال،فهو الغاية العظمى من إرسال الرسل وإنزال الكتب،حيث التلاوة،والتزكية،والتعليم،والتربية،والتهذيب،والتحقق بمقامات العبودية التي هي الغاية من وجودنا في الحياة،والتخلق بأخلاق الوحي السامية الراقية،ولن تتحقق هذه الأحوال إلا بطهارة :(النفس والقلب والروح والعقل). وهذه الأربعة هي مجالات فقه التزكية وميادينه وحلبته التي يصول ويجول فيها. لأن الإنسان كون من روح وجسد،ولكل واحد منهما طبيعته واحتياجاته ومتطلباته،فإذا تغلب أحدهما على الآخر وقع الخلل،وفقه التزكية يقيم التوازن بينهما فيعطي كل ذي حق حقه

وهذا النوع من الفقه يعد من أهم القضايا التأسيسية لبناء الإنسان الصالح المصلح والذي به يتحقق النجاح والفلاح والعمران والتقدم والرقي،فهو ثمرة كل العلوم والمعارف فهو يورث العبد الخشية التي هي ثمرة العلم النافع،و بالخشية تتحقق كل المنازل والمقامات ليصل العبد إلى ربه ويحقق غاية وجوده ورسالته في الحياة

وهو طريق تطهير النفس من أدرانها فهو يعالج أمراضها،ويقمع ويهذب شهواتها،ويعينها على المراقبة،و المجاهدة،والمحاسبة،ويدفع عنها الغفلات،وهواجس الخطرات،ويغرس فيها الأخلاق والقيم والمثل والفضائل العليا علماً وسلوكاً

 بل هو السعادة التي يبحث عنها كثير من الناس والتي تتمثل في (السكينة والطمأنينة) وهي لا تتحقق إلا بمعرفة الله تبارك وتعالى ومحبته،والأنس به عز وجل والشوق إلى لقائه،وهذا لا يكون إلا بتطهير النفس من غفلتها بواسطة منظومة تزكوية تربوية سلوكية تشتمل على التخلية والتحلية، وهما جناحي فقه التزكية والسلوك

فهو يعين على معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده ومحبته،وتحقيق وحيه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم،ورسالة الإسلام وجعله منهج حياة لا مجرد نظريات ومعارف وثقافات،فهو علم ومعرفة وتهذيب وتربية وسلوك وتحقق

ومن المعلوم أن تهذيب السلوك الإنساني لا يكون إلا بفقه التزكية خاصة ونحن في زمن الخواء الروحي،حيث أصيب إنسان العصر بالجمود  والكساد الروحي،وغلبة المادة عليه، فقلبه مشغول، ونفسه شاردة،بسبب الغزو الفكري، والحملات الشعواء على روحه وفكره ،وغلبة المادية و الانفتاح غير المنضبط عبر وسائل التواصل،وهذا بدوره سهل الوقوع في الغفلة والمعصية،وخروج أجيال ضعيفة لا تستطيع أن تثبت أمام هذه التحديات وتواجه هذه العقبات،ولن يستطيع إنسان اليوم الوقوف أمام هذه الأمواج العاتية والرياح المدمرة إلا بقلب قوي و روح طاهرة نقية عالية مزكاة،لإن إنسان اليوم غير إنسان الأمس،فهو يحتاج إلى قوة روحية غير عادية كونه في واقع متسارع مملوء بالمشاغل والمغريات والفتن والملهيات، عصر طغت فيه الماديات،والشهوات،وكثرة فيه الانشغالات، والموبقات ،فنحتاج أن نقابل هذا الواقع  بأشواق روحية نقية صافية راقية ، تهب علينا من نفحات دار الأرقم ، وخلوات الجنيد ، وعبد القادر الجيلاني.

وهو في نفس الوقت تراث لا يمكن الاستغناء عنه ففيه معاني يعصب أن نجدها في عالمنا المعاصر لأنها خرجت من سويداء القلوب والأرواح،فكلام الجنيد،والمحاسبي،والغزالي، والجيلاني،وابن القيم كلام عميق نفيس،تلمس فيه النفحات والفتوحات الربانية،والإشراقات النورانية القدسية،والحكم العطائية بها من المعاني الزاخرة التي تخاطب القلب والعقل،فتهز الفكر هزاً وتمس الروح مساً،فتجد فيها هدايات و لطائف و معارف روحية زاخرة استقاها صاحبها من الوحي بعد معايشة طويلة،فعند التعامل معها كأنك تحلق في الملأ الأعلى،فكيف يغفل عن هذه الكنوز والدرر

 إن النهوض بواقع الأمة ومواجهة التحديات والعقبات المعاصرة خاصة ونحن في زمن العولمة  والحملات الشرسة والتي تريد أن تجتث القيم والمبادئ،وتفصلنا عن تاريخينا،ووحينا وشريعتنا وحضارتنا،لا يكون إلا بإحياء الربانية والتي هي ثمرة فقه التزكية والسلوك. 

لقد حان الأوان للعودة إلى ينابيعه الصافية وموارده العذبة وحدائقه الغناء ورياحينه العطرة لنرتشف من أريجه الطيب وعبقه الساحر،ليصبح زاداً للسائرين،وطاقة محركة للعاملين المصلحين فبه تستعيد الأمة عافيتها ومجدها وتعود إلى مواقع الريادة والقيادة والأستاذية لتأخذ بيد العالم الحائر إلى شاطئ الهداية والنور والفلاح والنجاح.

 الدكتور:عماد عبدالله
 عضو بشبكة البحث المقاصدية

Share it on your

Start a Conversation:

Your email address will not be published. Required fields are marked *