الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد،وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد..

القرآن الكريم كتاب الله الجامع الشامل للكون والحياة وللدنيا والآخرة  وللروح والجسد وللقلب والعقل وللفرد والمجتمع  وللأمة والإنسانية فهو يمنح من يحسن التعامل معه رؤية متكاملة مترابطة متوازنة وفي نفس الوقت واقعية،لأن منهجيته تعتمد على مخاطبة النفس بكل مشاعرها وأحاسيسها وتعمل على ربطها بالكون والحياة وتغرس فيها معاني السمو الروحي والإيماني والفكري والسلوكي في وحدة موضوعية متناسقة متسلسلة كحبات العقد يسلم بعضها بعضاً وهذه المنهجية ليست عارضة بل تجدها من أول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 – 5] إلى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [البقرة: 281]،حيث الجمع بين الآيات القرآنية والكونية في نسق عجيب مبهر تلحظ فيه التفاعل في كل آية من آياته فهو يربطك بالكون والحياة وبالماضي وبالحاضر وبالمستقبل في قصصه وسننه ومقاصده وأوامره ونواهيه فيغرس فيك المعاني الإيمانية والقيمية والسلوكية ويربي الإنسانية أفراداً وجماعات كباراً وصغاراً رجالاً ونساءً بطريقة مدهشة تورث العلم والمعرفة والفكر والإيمان والحكمة واليقين بل وعين اليقين وحقه،لتصل بالجميع إلى سلم الإحسان والمراقبة والمشاهدة والوقوف على جلال الله وجماله وعظمته ورحمته بكل سهولة ويسر حيث البساطة والعمق. 

ولننظر إلي بعض اللوحات القرآنية لنرتشف هذه المعاني والتي هي في غاية الوضوح والجلاء لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، يقول جل شأنه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191]

 فتجد هذه اللوحة تشير إلى الآيات الكونية السموات والأرض والليل والنهار وآياته الباهرة التي صنعتها يد القدير العليم الحكيم المبدع،ثم تعرض لحال الذاكرين المتبتلين القانتين الداعين وهم في جو من المناجاة والتفكر في ملكوته وعجائب صنعه جو إيماني مهيب فلا يجدوا إلا أن يقروا لمعبودهم بالوحدانية والإلهية وأنه تعالى لم يخلق كونه عبثاً بل لغاية عظيمة وهي عبوديته عزوجل،بهذه المشاعر والأجواء كان يعيش نبينا صلى الله عليه وسلم حتى ذرفت عيناه خشية ومحبة وهو يستشعر جمال الله وجلاله. 

اللوحة الثانية وهي قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22] تعرض هذه اللوحة التوحيد في أصفى وأنقى صوره ومعانيه وتقدم دلائله في أبها حلة من جعل الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل الماء سر الحياة والبقاء والحدائق الغناء والثمار اليانعة والرزق الحلال الطيب فكيف بعد هذه الجمال يعبد غيره ويشرك معه،فهو يعرض الكون وحقائقه ويدلل بها على ربوبيته وإلهيته،وهذه المنهجية التي نحتاج أن تعرض بها العقيدة وقضايا الدين حيث الأجواء الروحية والجمالية والإيمانية والكونية بدل هذا التعقيد والجدل والخلافات العقيمة التي عفا عليها الزمان وللأسف أصبحت هي الأصل وأهمل في هذا الزحام كتاب العقيدة الأول (القرآن….والكون) وانقطعت الصلة بهما فما حصدنا إلا التفرق والتشرزم وذهاب الريح وضاعت معاني الإيمان الحقيقية ووقع الخواء الروحي والفكري والسلوكي.

اللوحة الثالثة يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [غافر: 61 – 65] تدلك هذه اللوحة على النظرة الكلية للكون والحياة فتجدها تحدثك عن الليل والنهار و رحمته عز وجل بعباده من جعله النهار للمعاش والسعي والليل للسكون والراحة وهذه النعم تحفزك على الشكر للخالق المبدع،وتجد الحديث عن الأرض والسماء والنفس والأرزاق والطيبات والنعم وهذا كله يدعوك إلى محبته والقرب منه والثناء عليه فهو الباقي الذي لا يفنى ولا يبيد والقيوم قاضي الحاجات مجيب الدعوات فادعوه مخلصين له الدين وقفوا على بابه فهو صاحب الخزائن ورب العالمين يعز ويذل ويعطي ويمنع،بهذه الأسلوب الراقي الذي يتدفق كمسيل الماء الذي يغمر الشجرة بجذوعها وأغصانها وأوراقها وثمارها ليصل بهذه المنهجية إلى الإنسان بكل مكوناته الروحية والفكرية والسلوكية ليستوعب النفس البشرية.

وبذلك استطاع القرآن بناء أمة فتية وحضارة متكاملة فكرا وسلوكاً قولاً وعملاً مزجت بالوحي والكون وخرج جيلاً قرآنياً فريداً ملك الدنيا والآخرة،فهل من عودة إلى كتاب ربنا الروح والنور والصراط المستقيم.  

  

 الدكتور:عماد عبدالله
 عضو بشبكة البحث المقاصدية

Share it on your

Start a Conversation:

Your email address will not be published. Required fields are marked *