الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد،وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد..
القرآن الكريم يحمل رؤية شاملة للكون والحياة يريد من ورائها إسعاد البشرية ورقيها، إلا أن اختزاله في باب واحد أو رؤية محدودة أو قراءة جزئية أو تبعيضية يعطل دوره ورسالته.
والناظر لواقع التعامل مع القرآن يجده إما محصوراً في زاوية الفقه بالمعنى الاصطلاحي الضيق وليس بمعنى كونه نظاماً شاملاً وفهماً واعياً للعلم والدين،لأن الفقه ليس تخصصاً محدوداً في مقابل بقية التخصصات،ولا كتباً بعينها ألفت في الماضي وأغلق مجال الإضافة فيها،وإما محصوراً في طوائف المفسرين،وعلماء الكلام. ومع النظرة الجزئية نجد الجمود على ما قدمه الأسلاف وأصبح جهدنا ينصب في النقل عنهم وهم في الحقيقة قد بذلوا جهدهم لواقعهم واستخرجوا ما يرتقي بهم ويرسم مستقبلهم. أما نحن لم نبذل بعد الجهد المطلوب والدليل الحالة التي وصلنا إليها من الوهن والضعف، فهذا التعامل الجزئي مع الجمود والتقليد لم يحقق الرؤية الشاملة والنقلة الحقيقية المرجوة،لذلك كان من اللازم علينا النهوض والبناء على السابق وتقديم رؤية واضحة شاملة متكاملة متوازنة وهذا لا يتم إلا بحسن التعامل مع القرآن الكريم.

والسؤال هنا كيف نستفيد من القرآن؟ وما هو طريق العودة إلى ينابيعه الصافية ومعينه العذب؟ لنقدم للأمة بل وللإنسانية رؤية تخرجها هذا مرحلة التيه والانحراف.
وهذه الرؤية الشمولية تفرض نفسها اليوم علينا حيث التطور الهائل وعالم الذكاء الاصطناعي وغير ذلك،ومن المسلم به أن القرآن يستوعب كل جديد ومستحدث،لكن المشكلة أننا مازلنا لا نستطيع اكتشاف درره واستخراج كنوزه بسبب حالة الجمود والتقليد التي أصابتنا…. ولإعادة هذا الدور للكتاب العزيز نحتاج إلى التعرف على أبعاد التعامل معه والتي تكمن في:
تفعيل المنهج السنني والذي يعني القواعد والطرق التي رسمها الله لعباده لأجل صلاحهم في العاجل والآجل،وهو أول بعد في التعامل مع القرآن،وقد أفرد له القرآن مساحة كبيرة وواسعة لأهميته ومدى الحاجة إليه فقد وردت مادة سنن ست عشرة مرة ليلفت النظر إليها إلا أن موضوع السنن أوسع من هذه المواضع،فالقرآن بين أن لله نواميس حاكمة في الكون وحركته وسنن في الخلق متعلقة بأمره ونهيه ووعده ووعيده،وهذه السنن والنواميس غلابة وصارمة لا تحابي ولا تجامل أحد لقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 62] وقوله:{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا } الإسراء (77) ومعنى: تحويلا دليل على أن هذا من مقتضى حكمته وأنه يقضي في الأمور المتماثلة بقضاء متماثل لا بقضاء مخالف فإذا كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون كان هذا موجبا لنصرهم حيث وجد هذا الوصف بخلاف ما إذا عصوا ونقضوا إيمانهم كيوم أحد فإن الذنب كان لهم ولهذا قال ولن تجد لسنة الله تبديلا فعم كل سنة له وهو يعم سنته في خلقه وأمره في الطبيعيات والدينيات. جامع الرسائل لابن تيمية 2001 (1 / 54) وهذه السنن طبقت على الأنبياء والرسل وأتباعهم وعلى الخلق جميعاً فهي تعمل إلى يوم القيامة.
والناظر للقرآن يجد أن هناك سنن واضحة للاجتماع البشري حيث قيام الأمم وزوالها وهذا يدل على أن الكون محكوم بقوانين ونظم ولم يخلق عبثاً كما قال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115] ويقول تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر: 49]
و من هذه السنن سنة الاستبدال فقد بين القرآن أن من أسباب هلاك الأمم وزوالها العناد والكبر والجحود للمنهج الإلهي يقول تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 51، 52]
ومن سننه الاستخلاف بشرط تحقيق الذلة لله تعالى وللمؤمنين يقول تعالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [آل عمران: 123]
ومن سننه الهزيمة عند المخالفة للتعاليم الإلهية يقول تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] ومن سننه الخذلان بسبب الإفساد في الأرض يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]
ومن سننه السعة والبركة عند الاستقامة على المنهج الإلهي لقوله:{ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]
ولاشك أن هذه المواضع وغيرها تدعونا إلى النظر والوقوف على المنهج السنني القرآني فهو المنطلق الصحيح،بل يلزم على العلماء والدعاة والمصلحين أن يجعله علماً من العلوم المدونة ليكون رافد من روافد الهداية والإنارة في الحاضر والمستقبل.
يقول: صاحب المنار: يجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه،والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن سجل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها،ولا يحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لها فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت لها الأصول والقواعد، وتفرعت منها الفروع والمسائل، وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها.
يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها ; لذلك قال: وما كانوا عليه من العلم بالتجربة والعمل أنفع من العلم النظري المحض وكذلك كانت علومهم كلها،ولما اختلفت حالة العصر اختلافا احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الأحكام وعلم العقائد وغيرهما كانت محتاجة أيضا إلى تدوين هذا العلم، ولك أن تسميه علم السنن الإلهية أو علم الاجتماع أو علم السياسة الدينية. تفسير المنار 1990 (4 / 114/ 115)
ولاشك أن تفعيل هذا العلم والبعد القرآني يعين على الرؤية الثاقبة والنتائج الصحيحة،وهذا معلوم وظاهر عبر تاريخ البشرية الطويل و يمنح القدرة على تحليل المسارات التاريخية والأحداث الواقعية ورسم الصورة المستقبلية لكن بشرط أن من يتعامل مع المنهج السنني لابد أن يكون على دراية كاملة به فهو منظومة متكاملة لا تؤتي أكلها إلا مجتمعة فالسياق القرآني يربط بين السنن الكونية والاجتماعية لكون القرآن وحدة موضوعية متكاملة،وهو كذلك يعطينا القدرة على استشراف المستقبل،ويمنحنا نتائج صحيحة لا تتخلف ولا تتبدل ولا تتغير إذا فعلت من خلال منهجية الوحي والتطبيق النبوي والمنظور الحضاري.
وهو بدوره يحقق الأهداف والغايات المرجوة لكونه قطعي الثبوت والدلالة فهو ليس من قبيل الصدفة إنما ينبني على مقدمات ونتائج كعلم الرياضيات،والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف: 96] والمتأمل لهذه الآية يجد سنة الله الخالدة والتي تعني أن البشرية لو تحققت بالإيمان والتقوى فتحت لها خزائن السموات والأرض وحصلوا على البركة والعكس هو الصحيح ،وكذلك نجد هذا في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11] وهذه السنة تقول إن التغيير مرتبط بكم كلما تغيرت فكراً وسلوكاً و استقمتم على منهجي حصل التمكين والاستخلاف فمحور العملية التغييرية مرتبط بكم أنتم،وقس على ذلك كل السنن القرآنية.
وغياب هذا البعد عنا في التعامل مع القرآن يكون له أثره السلبي حيث التخبط والرجعية وكثرة الأخطاء وتعطيل السببية وضياع الغاية من وجودنا وذهاب الريح ووقوع الهزائم والسقوط في براثن التبعية والهيمنة والتحكم فنصبح المفعول به لا الفاعل والسبب هو التفريط في فهم السنن الإلهية وعدم إدراكها وحسن التعامل معها،ولا شك أن هناك كتابات في هذا البعد وجهود مبذولة،لكن تحتاج إلى عمق أكثر وتدقيق وحسن تطبيق وتنزيل وتفاعل، فالتنظير والتأطير وحده لا يكفي،وللحديث بقية.