القرآن الكريم يحمل منهجاً سننياً متكاملاً متوازناً متناسقاً فاض فيه وفصل وذلك لأهميته وحاجة الأمة والبشرية إليه،وقد طلب منا معرفته وتدبره ومراعاته لكونه الطريق الحقيقي لتحقيق الاستخلاف في الأرض، قال جل شأنه:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 137،138] ،ومن المواضع القرآنية للمنهجية السننية كلمة: (عاقبة) ،حيث النظر في العواقب والمآلات لتفادي المشكلات والسلبيات المستقبلية،ورد ذكرها في القرآن الكريم في: (سبع وعشرين موضعاً)وذلك لأهميتها،حيث جاءت في مواضع متعددة وسياقات مختلفة،وهي تعني: نهاية كل شئ وما تؤول إليه الأمور وتنتهي، فتدعونا إلى التأمل في العواقب،وكيف كانت سنة الله في إهلاك الأمم المنحرفة عن منهجه وشريعته.

وعند التدبر في مواضعها نجد أنها جاءت مع فئات مختلفة كالمكذبين في أربعة مواضع منها قوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 25] ،وجاءت مع الظالمين في ثلاثة مواضع منها قوله: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } [القصص: 40]]،وجاء مع المفسدين في ثلاثة مواضع منها قوله:{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}،وجاءت مع المنذرين في موضعين منها قوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 73]،وجاءت مع المجرمين في موضع واحد في قوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 84] ،وجاء مع الذين أساءوا في موضع واحد في قوله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } [الروم: 10] وجاءت مع الماكرين في موضع واحد في قوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51]، وعند التدبر في هذه المواضع يظهر لنا عدة ملامح منها:
الملمح الأول:
أن فئات المفسدين ذكرت عاقبتهم في ثلاثة مواضع،موضعان مع آل فرعون في قوله:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103] وفي قوله:{ َجَحَدُوا بِهَا ِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] وفي قوله:{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86] ،وهذا يدل على أن الظلم من أعظم أنواع الإفساد في الأرض،ولذلك وصفه الله تعالى به عند هلاكه هو وجنوده في قوله:{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 40] فالطبيعة الفرعونية كانت الاستبداد والقهر والعلو والجبروت والتكبر والظلم،وهذا المسلك قمة الإفساد،ولذلك جعل القرآن الإفساد صفة لازمة لها حيث ورد في عدة مواضع منها قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] وفي قوله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [يونس: 91] وقوله:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [القصص: 4] وكأنه أفسد من مر على ظهر الأرض حيث نسب لنفسه الإلهية والربوبية وقتل وظلم ووصل إلى أقصى درجات الطغيان والعتو.
وطبيعة قوم شعيب الظلم سواء بكفرهم أو بأكل أموال الناس بالباطل،وتضييع الحقوق،أو الصد عن سبيل الله،وهذا كله من مظاهر الإفساد في الأرض،وذكر وا في موضع واحد،لأنهم أقل من فرعون في فساده وطغيانه.
وكذلك ذكر الإفساد مع قوم لوط في قوله: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 28 – 30] وفساد قوم لوط كانت مخالفتهم للفطرة والشذوذ الجنسي،وهذا بدوره يأذن بفناء العالم وفساده،ووصفهم القرآن بوصف آخر وهو الإجرام فقال تعالى:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 84] فالظلم والفواحش والشذوذ وتغيير الفطرة من أكبر أنواع الإفساد المعنوي والمادي وهي من أهم مهام إبليس مع ذرية آدم قال تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119] ،فليتدبر العالم الإنساني اليوم وقد حل به داء الظلم واختل ميزانه حيث الكيل بمكيالين،وخالف فطرة الله بسن قوانين ونظم تهدم الفطرة وتمسخها أن ينزل به غضب الله تعالى ويحل عليه سخطه ونقمته يقول سبحانه:{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63]. فهذه سنته التي لا تتبدل ولا تتغير:{ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]
الملمح الثاني:
هو أن سنة الهلاك نالت طوائف بعينها حددها القرآن وهي: طائفة المكذبين،والظالمين، والمفسدين،المنذرين،والماكرين،والمجرمين،والمسيئين،وكأن هذه المخالفات من أعظم الانحرافات،والملاحظ أن السنة عآمة ومطردة فكل من سار في طريق هؤلاء عاقبه الله بنفس العقاب وهو الهلاك المحتم والنهاية المؤلمة.
الملمح الثالث:
لقد حان الأوان للعودة إلى ينابيعه الصافية وموارده العذبة وحدائقه الغناء ورياحينه العطرة لنرتشف من أريجه الطيب وعبقه الساحر،ليصبح زاداً للسائرين،وطاقة محركة للعاملين المصلحين فبه تستعيد الأمة عافيتهاكون الإطار العام لهذه المواضع عباره عن قوانين مطردة جعلها الله تعالى نظاماً في خلقه منذ نزول الآبوين إلى قيام الساعة لا تتخلف قيد شعرة قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124] وهذا هو البيان القرآني يؤكد هذا الملمح حيث جمع الله تعالى هذه الفئات المنحرفة عن الوحي وناموس الشريعة وهدي الرسل وذكر عقابها المتنوع على مر العصور والدهور فقال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [العنكبوت:38،40] وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6 – 14] ومجدها وتعود إلى مواقع الريادة والقيادة والأستاذية لتأخذ بيد العالم الحائر إلى شاطئ الهداية والنور والفلاح والنجاح.
الملمح الرابع:
كون سنة الهلاك مرتبطة بالإفساد والظلم والفواحش والتكذيب والإجرام والإساءة والإعراض،وهذه بدوره يظهر لنا أن المنهج السنني عبارة عن قوانين جعلها الله حاكمة على حركة الكون وأحداثه فهذه السنة التي معنا (سنة الإهلاك) لهذه الفئات نجدها واضحة من خلال هذا الاطراد في هذه المواضع.
الملمح الخامس:
مجيء كلمة:(فانظر) في أغلب المواضع التي وردت فيها كلمة : (عاقبة)والنظر المطلوب: هو التأمل بالعين المجردة،وتقليب البصيرة القلبية لإدراك الشيء ورؤيته على حقيقته،حيث الفحص والتدقيق لحصول المعرفة اليقينية لا مجرد النظرة السطحية،وكأنه يطلب النظر بالبصر والبصيرة وهو قمة التدبر.
الملمح السادس:
أن للكون نظم وقوانين راسخة تحكمه لا تحيد حركة الحياة عنها فالكل يسير في فلك واحد ونظام منضبط الكون …والإنسان ….والوحي،قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] وقال جل شأنه:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، وقال سبحانه:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]فالكون لا يسير عبثاً ولا بعشوائية،بل تحكمه سنن وأنساق ونواميس،فالذي خلق الكون وأبدعه هو الذي خلق الإنسان وكونه،وهو الذي أنزل الوحي وفصله وبينه،وهذه الأفلاك الثلاثية تسير في نظام واحد حيث التناسق والتوازن والتوازي وأي مخالفة أو انحراف يحدث تصادم فتجد سنة الله له صارمة بالمرصاد فلا تتخلف ولا تتبدل ولاتتحول،فمن سار في ركاب الفسدة والظلمة والمكذبين والمعرضين وغير الفطرة اليوم وإلى يوم القيامة سيناله عقاب الله وتقع به سنة الهلاك وإن تغيرت أشكالها وألوانها وطرقها.
الملمح السابع:
هو أن المنهج السنني أوسع من السياق الخاص لتلك الآيات التي ذكرت فيها لفظ (السنن) فلفظ عاقبة دلنا على ذلك واعطانا بعداً جديداً وهو أن القرآن كله يعتبر منهج سنني بما ما فيه من موضوعات متنوعة فكلها في النهاية تقصد إلى بيان السنن الحاكمة على الكون والحياة،وهذا بدوره يدعونا إلى النظرة الشمولية التكاملية للمنهجية السننية القرآنية.
الملمح الثامن:
هدف القرآن من الدعوة إلى النظر في العواقب هو :التنبيه والتحذير للبشرية جمعاء من أسباب الهلاك وهي دعوة صريحة للاستشراف وأخذ الحيطة والحذر،وبدورها تعين الأمة على الربط بين الغاية والوسيلة ومعرفة الآثار المستقبلية،و تؤسس لعلم المستقبليات والذي هو من أهم علوم عصرنا الحديث، ولكن القرآن سبق كل العصور و المستجدات والمستحدثات والذكاء الاصطناعي وكل الأدوات التي ظهرت وستظهر إلى قيام الساعة،حيث أسس له منهجية متكاملة الجوانب والأركان منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان -ويعلم ذلك من درس هذا العلم وتعمق فيه-،إلا أن ضعف التعامل مع القرآن وغياب النظرة الشمولية والقراءة التبعيضية والسطحية وغياب كون القرآن حاكماً ومهيمناً ضيع على الأمة فرصاً كثيرة.