القرآن بين الترتيل والتفعيل: رحلة النور في واقع المسلم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد،وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد..

قلتُ لصاحبي ذات ليلةٍ هادئة: ما علاقتك بالقرآن؟فأجابني بصوتٍ هامس، كأن كلماته تُقطِّر من قلبه:
لست أراه كتابًا للدراسة وحسب، ولا تلاوةً عابرةً أعدّ بها الحروف والحسنات، بل هو عهدُ ودٍّ مقيم، وأنسٌ لا ينقطع، كأنني أجلس مع صديقٍ حميمٍ لا يتركني وحدي.

ثم تابع قائلًا:
أرجو أن أصل إلى مقام الأُنس؛ أن أغترف من معين القرب، وأقتبس قبسات النور في سيري وسلوكي، كما كان خُلُق النبي ﷺ القرآن: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4).

وسكت صاحبي برهةً، ثم أطرق برأسه كأنما يستدعي من قلبه ذكرى بعيدة، وقال بنبرة حنين:
يا صديقي، السورة والسيرة توأمان لا يُفترقان؛ فالسورة بلا سيرة جسدٌ ساكن بلا نفس، والسيرة بلا سورة تاريخٌ ماضٍ بلا قبس هداية.
إنهما تكامل وضرورة، فإذا جمعنا بينهما رأينا الوحي حيًّا يتنفس في المواقف، ورأينا التاريخ يفيض بالأنوار، فتتجلّى الآية وهي تلامس الحدث، ويشرق المعنى على قدر الزمان والظلال.
هنالك فقط يصبح القرآن حياة نابضة، لا ألفاظًا جامدة تتلى.
ثم ابتسم وقال:
السورة عندي ليست نصًا جامدًا، بل ظلٌّ من ظلال السيرة، وصوتٌ من أصوات النبوة، امتدادٌ لذلك النور الذي نزل في الغار، ثم تردّد صداه في دار الوحي، فصار حياةً كاملة.

سؤال النور: من «ٱقْرَأْ» إلى «رَتِّلْ»

ثم همس إليّ وهو شارد: أتدري ما الفرق بين القراءة والترتيل؟
قلت: وما هو؟
قال: سؤال يهتف في داخلي: لِمَ بدأ الخطاب في سورة العلق بالأمر: ﴿ٱقْرَأْ﴾،
ثم جاء لاحقًا أمر آخر: ﴿وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (المزمل: 4).
ما الفرق بين المقامين؟ وما دلالة الانتقال من «ٱقْرَأْ» إلى «رَتِّلْ»؟

النداء الأول: «ٱقْرَأْ»

في الغار… كان النبي ﷺ وحيدًا، فإذا بالنور يفاجئه.جبريل يقترب، يضمه حتى يبلغ الجهد، ثم يقول: «ٱقْرَأْ».
فيرتجف الحبيب ﷺ ويقول: «ما أنا بقارئ».
لم يكن رفضًا، بل ذُهُولًا إنسانيًّا عميقًا، لحظة التقاء الأرض بالسماء.

وهناك، تنزّلت الآيات الأولى، تهزّ صمت الغار وتفتح أبواب السماء: ﴿ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلْأَكْرَمُ * ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5).
كانت هذه الآيات إعلان ميلاد الرسالة، لا درسًا لغويًا ولا تمرينًا صوتيًا؛ بل إطلالة القلب على شرفات النبوة، وبداية العلم بالله قبل كل شيء.

من القراءة إلى الترتيل

قال صاحبي هامسًا:
وبعد أن انقشع الخوف، وسكنت الروح، واطمأن القلب لرفق الوحي، جاء الأمر التالي في سلّم الارتقاء: ﴿وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (المزمل: 4).
لقد جاءت سورة المزمل لتضع لبنة جديدة في بناء النبوة: ليست مجرد تلقّي، بل تذوّق وتمكُّن.
فلا يكفي أن نقرأ، بل يجب أن نرتّل؛ حيث تتآلف الحروف مع المعاني، والصوت مع الروح، في توازن لا يُوهب إلا لمن خالط القرآن شغاف قلبه.
القراءة في حراء كانت بذرة النور، أما الترتيل في سكينة الليل فكان الغرس الذي حان وقت سقيه.

لطائف الإنصات: سرّ التحوّل

وأضاف قائلًا:
ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأعراف: 204)؟
هذا ليس تربية على الأدب فقط، بل هو مفتاح تلقّي النور.
فالقراءة بداية، والاستماع بحضور العقل جسر الفهم، أما الإنصات بحضور القلب فهو لحظة التحوّل: حين يسري النور من الأذن إلى الأعماق، فيصير القرآن نبضًا في القلب، ونورًا في السلوك، ودستورًا للحياة.
الفرق بين من يقرأ بلسانه ومن ينصت بروحه، كالفرق بين من يلمس سطح الماء ومن يغوص في أعماقه.

الترتيل والتدبّر: البوابة الكبرى

قال: الترتيل ليس مجرد تحسين صوت، بل هو حالة يتّزن فيها صوت حاضر، وقلب خاشع، وعقل متأمل.
فكما لا تنبت البذور في أرض لم تُمهّد، لا تستقر معاني القرآن في قلب لم يُروَّ بالترتيل.
﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةًۭ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَـٰهُ تَرْتِيلًۭا﴾ (الفرقان: 32).
ثم أردف وهو يتأمل بعيدًا: ما أعجب هذا التعبير: ﴿وَرَتَّلْنَـٰهُ تَرْتِيلًۭا﴾… كأن الله جلّ وعلا يقول: أنزلنا القرآن متدرجًا، نجمًا بعد نجم، وآية بعد آية، بتمهّل وتبيين، ليُحسن القلب تلقّيه، وتتهيأ النفس لحفظه والعمل به.

إن الحكمة في هذا التنزيل المتدرج أن يثبت الفؤاد، ويقوى القلب على الحفظ والفهم؛ فالمعرفة التي تُعطى جزءًا جزءًا تُرسَّخ في النفس رسوخًا أعمق.وكان القرآن ينزل وفق الحوادث والأسئلة، يجيب السائل، ويرشد الحائر، ويعالج الموقف في حينه، فتكون الحاجة أدعى إلى العمل، ويكون الأثر أبقى في القلوب.
أما المشركون فقد جهلوا هذا اللطف الرباني، وقالوا مستنكرين: هلا نزل القرآن جملة واحدة!
وهم لا يدرون أن التنجيم كان رحمة، وأن هذا التوزيع كان تثبيتًا، وأن وراء كل آية توقيتًا يشرح صدر النبي ﷺ، ويقوي عزيمته، ويزيد المؤمنين يقينًا.

ثم التفت إليّ صاحبي وقال:
أترى كم نحن بحاجة اليوم إلى هذا التثبيت؟
فالمسلم المعاصر يواجه ضغوطًا لا تقل عن تكذيب المشركين: فتنة الإعلام، عجلة الحياة، غربة الدين.
ولا دواء للقلب مثل أن يتنزل عليه القرآن مهلًا، آية بعد آية، في صلاة الفجر، وفي خلوة الليل، وفي زحام النهار.
فالترتيل إذن ليس مجرد صوت متأنٍّ، بل هو صورة من صور الحكمة الإلهية في التنزيل،
به يتهيأ القلب، ومن خلاله ينبت التدبر، وتثمر الحياة عملًا ووعيًا ونورًا.

الخاتمة: من «ٱقْرَأْ» إلى «رَتِّلْ»… ومن الترتيل إلى التفعيل

وأخيرًا قال لي وهو يرفع بصره إلى السماء:
من الغار إلى الدار، ومن الخوف إلى السكينة، ومن «ٱقْرَأْ» إلى «رَتِّلْ»… هكذا صعد النبي ﷺ معارج النور.
لكن المسير لا يقف هنا؛ فالغاية ليست القراءة ولا الترتيل وحدهما، بل أن يتحوّل الترتيل إلى تفعيل.
فحين يقرأ المسلم اليوم: ﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 6)،لا يكفي أن يتذوّق حلاوة النغمة، بل عليه أن يواجه شدائد الحياة بروح اليقين أن الفرج ملازم لكل شدة.
وحين يسمع: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا﴾ (التوبة: 40)،لا ينبغي أن تبقى الكلمة عاطفةً لحظية، بل تتحوّل إلى معية حيّة تمكّنه من الثبات في زمن الغربة والفتن.

إن الانتقال من «ٱقْرَأْ» إلى «رَتِّلْ» هو بناء الإنسان من خارج إلى داخل، من العقل إلى القلب. أما الانتقال من الترتيل إلى التفعيل فهو بناء الأمة من داخل إلى خارج، من الروح إلى العمران، من الخلوة إلى حركة الحياة.
﴿أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28).
ثم همس صاحبي وهو يبتسم:
فما أُنزل القرآن ليُقرأ فحسب، ولا ليُرتّل وحسب، بل ليُعاش ويُفعَّل في واقع المسلم، نورًا يضيء الطريق، ودستورًا يغيّر الحياة..

د/ عصام الجبوري
عضو الشبكة المقاصدية

Share it on your

Start a Conversation:

Your email address will not be published. Required fields are marked *