يُعتبر باب الترجيح من أهم أبواب الاجتهاد في القضايا الفقهية التي يثور حولها الخلاف، فهو الأداة التي تُمكّن المجتهد من اختيار الحكم الأقرب إلى الصواب عند تعارض الأدلة أو اختلاف الآراء. لكن ضيق دائرة الاجتهاد التقليدي وصعوبة حسم كثير من القضايا دفع إلى البحث عن آفاق أوسع، فظهر الاجتهاد المقاصدي كمنهج يوفّر مجالًا رحبًا ووسيلة أنجع لترجيح الأحكام، سواء في عملية استنباطها أو في تنزيلها على واقع الناس المعاصر.

أولًا: معنى النظر المقاصدي وأصوله
النظر المقاصدي هو جهد فكري واجتهادي يهدف إلى استكشاف مقاصد الشريعة وغاياتها من النصوص والأحكام، بحيث لا يقف عند حدود الجزئيات، بل يتجاوزها إلى الرؤية الكلية التي تراعي المصلحة العامة.
وقد عُرف هذا الاتجاه منذ الإمام الشاطبي، ثم جرى إحياؤه على يد ابن عاشور، وتطور مع المعاصرين كالدكتور أحمد الريسوني، حتى غدا اليوم أحد أهم مناهج التجديد الفقهي.
النظر المقاصدي يقوم على أن الشريعة إنما وُضعت لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، وهذه المصالح تتدرج في ثلاث مراتب: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات. وكل اجتهاد مقاصدي لا بد أن يراعي هذه التراتبية عند الترجيح بين الأحكام أو في مواجهة النوازل المعاصرة.
ثانيًا: قواعد النظر المقاصدي
هناك ثلاث قواعد أساسية يقوم عليها النظر المقاصدي:
قاعدة التعليل: ربط الأحكام الشرعية بعللها ومقاصدها، أي البحث عن الحكمة التي شرعت من أجلها، وهو ما يجعل الفقه أكثر حيوية وارتباطًا بواقع الناس.
قاعدة الاستصلاح: تفسير النصوص الشرعية بما يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، دون أن يكون ذلك تحكمًا أو تعطيلًا للنصوص، بل حسن فهم لها.
قاعدة اعتبار المآل: أي استشراف النتائج المستقبلية للأفعال والقرارات الفقهية، وتقدير ما قد تؤول إليه قبل الحكم عليها.
ثالثًا: أثر الاجتهاد المقاصدي في التجديد الفقهي
لقد أدى الفكر المقاصدي إلى تجديد أصول الفقه وتوسيع مجالاته، بعد أن عانى الفقه الإسلامي طويلًا من الجمود والتقليد. فأصبح المجتهد بفضل النظر المقاصدي قادرًا على:
تجاوز ضيق النظر الجزئي إلى أفق الرؤية الكلية.
التعامل مع النوازل المعاصرة المعقدة التي تتشابك فيها مصالح متعددة.
الجمع بين التدليل (تحديد الدليل الشرعي)، والتعليل (فهم الحكمة والعلة)، والتنزيل (إسقاط الحكم على الواقع).
النظر المقاصدي لم يعد مجرد نظرية، بل تحول إلى أداة عملية للتشريع والإفتاء، تقوم بوظيفتين أساسيتين:
وظيفة نظرية: تشمل التدليل، التعليل، والتأويل.
وظيفة تنزيلية: تشمل تطبيق هذه القواعد على الواقع المتغير ومشكلاته.
رابعًا: تطبيقات عملية للترجيح المقاصدي
يظهر أثر الاجتهاد المقاصدي بوضوح في بعض المسائل الفقهية المعاصرة والقديمة على السواء، مثل:
التداوي بالنجاسات عند الضرورة: حيث قُدّم حفظ النفس (وهو من الضروريات) على اجتناب النجاسات (من التحسينيات)، فأجاز العلماء التداوي بها عند انعدام البديل الطاهر.
إسلام المرأة دون زوجها: اختلفت المذاهب في حكم استمرار عقد الزواج، لكن من منظور مقاصدي، روعي مصلحة المرأة وحماية الأسرة والدعوة إلى الإسلام، فكان الترجيح لصالح التيسير وعدم إبطال العقد تلقائيًا.
هذه النماذج تؤكد أن الترجيح المقاصدي لا يكتفي بجمع الأدلة، بل يوازن بينها وفق تراتبية المصالح والمفاسد، مع مراعاة الواقع ومآلات الأحكام.
خامسًا: الخلاصة والاستنتاج
إن النظر المقاصدي أضحى اليوم أحد أعمدة الاجتهاد المعاصر، بما يقدمه من رؤية شمولية وعملية تعين المجتهد على إصدار الأحكام المناسبة.
فهو اجتهاد واقعي ومآلي، ينطلق من مراعاة الكليات قبل الجزئيات، والمصالح قبل التفاصيل، مما يجعله أكثر قدرة على معالجة النوازل المعاصرة.
وفي زمن تتشابك فيه القضايا وتتعقد، نحن بحاجة ماسّة إلى فقه يقوم على المقاصد، يجمع بين النصوص وغاياتها، ويحفظ مصالح الناس في دينهم ودنياهم.
فالفتوى اليوم لا تكفي أن تكون مبنية على ظاهر النص، بل تحتاج إلى عقل مقاصدي متبصر، يوازن بين المصالح والمفاسد، ويقدم الأنفع والأصلح، في ضوء قاعدة عظيمة: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وقد يكون العكس في بعض الحالات حيث تحمل المفسدة لتحقيق مصلحة أرجح.

د. عثمان كضوار
عضو مختبر الدراسات الإسلامية والأنساق المعرفية، بجامعة شعيب الدكالي

