سنة الاستبدال والتغيير 

 الحمد لله رب العالمين أنزل الكتاب بالحق والميزان ليقوم الناس بالقسط، فأحيا به أمة وجعلها به خير أمة أخرجت للناس، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المصطفى والرسول المجتبى وعلى آله وأصحابه الكرام الأماجد البررة، أما بعد…..

ومن السنن التي نحتاج أن نتدبرها سنة:(الاستبدال والتغيير ):ومعنى :الاستبدال والإبدال والتبديل والتبدل، والاستبدال: يعني جعل شيء مكان آخر، وهو أعم من العوض، فإن العوض هو أن يصير  لك الثاني بإعطاء الأول، والتبديل يعني التغيير مطلقاً. ومعنى : التغيير :إحداث شئ لم يكن قبله،أو انتقال من حالة إلى حالة،وكلاهما يعني التغيير سواء كان مطلقاً أو جزئي.

والمتدبر للقرآن الكريم يجد هذه السنة واضحة حيث استبدال الله قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم،وكذلك استبدل جيل مكان جيل كبني إسرائيل وهلاك جيل كامل في فترة التيه ،ثم استبدلهم بعد انحرافهم بمبعث النبي الخاتم، وبما أن  أمتنا  تتميز  بالخاتمية والعالمية فهذه السنة تشمل الأجيال والجماعات والأفراد فأمتنا تمرض لكن لا تموت،فالضعيف المتهاون يستبدل بالقوي المنضبط، والجبان المتخاذل يستبدل بالشجاع المقدام ،و الذي أصابه الوهن، وحب الدنيا، وكراهية الموت يستبدل بمن لا يخشى في الله لومة لائم  .

وهذا ملمح قرآني جلي في هذه السنة يظهر لنا كون أن الأمم والشعوب والجماعات والأفراد يخضعون لدورة تداولية كالإنسان يمر بمراحل قوة وضعف إلى أن يصل إلى مرحلة الرحيل والزوال، فالدول والشعوب كذلك،فكم من حضارات قامت واندثرت، وكم من أمم وجماعات استبدلت وذهبت، يقول تعالى: ﵟوَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينﵞ [آل عمران: 140].  

 وحين نتدبر  سنة الاستبدال والتغيير في الكتاب العزيز  نجد أن :(التغيير ) ورد في موضعين قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11] وقوله: ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ [الأنفال: 53 ]


والمعنى: أن الله تعالى لا يغير نعمه على عباده إلا إذا تغيروا هم وغيروا ما  بأنفسهم ، فينقلهم الله تعالى من حالة العز إلى الذل، ومن حالة النعمة إلى البؤس، ومن حالة الغنى إلى الفقر ،ومن حالة القوة إلى الضعف .

وأما الاستبدال فقد ورد في موضعين قوله تعالى: إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا وَيَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيۡـٔٗاۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ [التوبة: 39: ]وقوله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم [محمد: 38]  وكلاهما تحذير من الله تعالى لهذه الأمة بأن لا يتولوا عن هذا الدين ونصرته والدفاع عنه، فإن فعلوا ذلك وقصروا، عندها يأتي الله  بخير منهم قوم يقومون بأعباء الرسالة والمهمة ويأخذون الكتاب بقوة يحبهم ويحبونه،والمدقق للمنهج القرآني في سنة الاستبدال والتغيير  يجد أن هناك أسباب متعددة إذا وقعت تم التغيير والاستبدال منها: 

(أ) الانحراف عن الصراط المستقيم،وعدم نصرة الدين، والركون إلى الدنيا ،والخوف من أعداء الله  ، كما جاء في قوله تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] 

(ب) مخالفة تعاليم الله و رسله والركون إلى الدنيا والجبن والخور،  وهذا  نراه ظاهراً  في بني إسرائيل بعد نجاتهم من فرعون ،فقد طلب منهم نبي الله موسى عليه السلام دخول الأرض المقدسة، إلا أنهم  تخلفوا فكان استبدل الله لهذا الجيل  بجيل شجاع  قوي  مقدام يقوده: (يوشع بن نون) ،يقول تعالى :ﵟقَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 24 – 26] 

(ج) التولي والتقاعس عن علو  كلمة الله تعالى ونصرة دينه ، والحفاظ على بيضة الأمة، ومقدساتها، يقول تعالى : يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ  38 إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا وَيَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيۡـٔٗاۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ  [التوبة: 38-39: ] 

(د) الوقوع في براثن الظلم  والطغيان والإفساد، يقول سبحانه: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57] ويقول تعالى: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الأعراف: 160]

وهذه المواضع جاءت في معرض الحديث عن بني إسرائيل وكيف استبدلهم  الله بسبب طغيانهم و ظلمهم  وانحرافهم عن منهجه تعالى، حيث استبدلهم الله تعالى بالأمة المحمدية الشاهدة التي تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتمتلك مقومات الشهود على العالمين.

وفي عآمة الأمم كانت سنة الاستبدال لنفس العلة حيث: الانحراف عن الفطرة، ومحاربة الرسل، وعدم الاستجابة لتعاليم الله ورسله، ووقوع الظلم بجميع صوره وأشكاله، ونجد هذا واضحاً في قوله:أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون [التوبة: 70] وقوله:إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ  [يونس: 44]  وقوله :وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 39، 40] وقوله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم: 9]

إذاً علة الاستبدال هي: الظلم والطغيان والإفساد في الأرض، وتبديل الفطرة، ومعاداة المنهج الإلهي، والانحراف عن الصراط المستقيم،والتخلف عن نصرة الدين  والتهاون في الحفاظ على مقدسات الأمة،وعندها تتحقق هذه السنة بدون مجاملة ومحابة حيث تطبق على الجميع.

وهذه السنة تنبه بأن نراجع أنفسنا  قبل فوات الأوان حيث يجد الإنسان  نفسه خارج الخدمة  فقد تم تغييره واستبداله وهو لا يشعر، لأنه لا يصلح للاستمرار  وأداء الرسالة وتحقيق مقومات الاستخلاف، فسنن الله غلابة لا تتبدل ولا تتغير  ولا تتحول ولا تجامل ولا تحابي : سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا [الأحزاب: 62]:سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلًا [الإسراء: 77 ] 

 الدكتور:عماد عبدالله
 عضو بشبكة البحث المقاصدية

Share it on your

Start a Conversation:

Your email address will not be published. Required fields are marked *