الخطة البحثية

خطة معهد المقاصد البحثية هدفها أن يعود كل العلم أصالة إلى مصدرية الوحي – كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم – أي هيمنة الوحي على المعرفة الإنسانية في كل صورها، وأن تتوجه بذلك الأصول المعرفية والمنطقية والإدراكية نحو تصور الوجود والإنسان بناء على الوحي، وأن يتطور مفهوم الاجتهاد ليشمل كل جهد عقلي إبداعي يلتزم بالمنهجية وبثوابت الإسلام ويقصد إلى تحقيق مقاصده في كل مجالات الحياة، وأن تتطور حصيلة الاجتهاد لتصبح تصورات مركبة ونظريات ومبادئ حاكمة على الأحكام والقرارات والخطط التفصيلية، وأن يبقى باب التدبر والتفكر في الوحي مفتوحًا لكل من يجتهد ويبحث عن إجابات للأسئلة الملحة في عصرنا من خلال تقسيم جديد لفروع الدراسات الإسلامية كما يلي:

دراسات الأصول

نقصد بدراسات الأصول الدراسات المنهجية التأصيلية التي تتناول أصول كل العلوم التي تتعلق بالوحي مباشرة، أي العلوم التي تخصص أهلها في دراسة الوحي كتاباً وسنة، وأنتجوا علومهم بناء على منظومته المعرفية، ولو اختلفوا إلى مذاهب ومدارس ومشارب تاريخية ومعاصرة، وفي مركزها أصول التفسير وأصول الحديث وأصول الفقه وأصول الكلام وأصول اللغة العربية، ثم أصول علوم أخرى كالسياسة الشرعية والدعوة والتاريخ الإسلامي وغيرها.
وهذه الدائرة التأصيلية من الدراسات تستوعب أصول الدراسات الإسلامية التقليدية المعاصرة، وتؤصل منهجياً لكل الدوائر الأخرى وتتقاطع وتتفاعل معها، أي أن تكون الفروع التطبيقية لهذه الأصول هي دوائر دراسات التخصصات، ودراسات الظواهر، والدراسات المؤسسية، وقد تتقاطع هذه الدوائر حين يتأهل المجتهد في علوم الأصول للتصدي لبعض قضايا الفروع التطبيقية كدراسة تخصص أو أكثر، أو دراسة ظاهرة أو أكثر، أو دراسة مؤسسية. و قد يحدث العكس حين يتصدى المجتهد المتخصص أو الدارس لظاهرة أو مؤسسة معينة – يتصدى للاجتهاد في بعض قضايا الأصول، كلٌ – بالطبع – حسب تأهله وتدريبه وقدراته، وإنما العلم بالتعلم.
وهناك تقاطع بين علوم الأصول وعلوم تخصصية أخرى، مثل أصول السياسة الشرعية، والتي حان وقت التجديد فيها لكي تعيد تشكيل تخصص العلوم السياسية كله من منطلق إسلامي، خاصة النظرية السياسية، وأصول التاريخ الإسلامي، والتي حان وقت التجديد فيها لكي تعيد تشكيل تخصص التاريخ كله من المنطلق الإسلامي، وأصول فقه الأموال والخراج والوقف، وقد حان كذلك وقت التجديد فيه لكي يعيد تشكيل تخصص الاقتصاد كله من منطلق إسلامي، خاصة النظريات الاقتصادية الكبرى، وأصول علم الدعوة لها تقاطع مع أصول تخصص الاتصال المعاصر، وأصول اللغة العربية لها تقاطع مع أصول تخصص اللغويات المعاصر، وهكذا.
ثم إن هناك تقاطع لابد أن يزيد بين علوم الأصول الإسلامية نفسها، نظراً لأنها كثيراً ما تحصر نفسها في إطار محدود وفي جزر منعزلة عن بعضها وهو ما لا يصح حسب المنطق التواصلي المقاصدي الذي تتبناه المنهجية المطروحة، فأصول الفقه مثلا اقتصرت تقليدياً على بعض أدوات التحليل اللغوي أو مبحث الدلالات، وأدوات استنباط الأحكام الجزئية من النصوص المباشرة أو مبحث الأدلة الثانوية، ودراسات أخرى في مباحث الأهلية، إلى آخره، ولكن هذه المباحث الأصولية لا تستطيع أن تلبي الاحتياجات المنهجية للفقه المعاصر بالمفهوم الشامل الذي عرضناه إلا أن تتفاعل مع الدراسات المنهجية التي تشكل إطاراً للتعامل مع التخصصات والظواهر والمؤسسات المعاصرة كما نقترح هنا، وأصول الفقه لا يسعنا كذلك أن نعزلها عن أصول التفسير وأصول الحديث وأصول الكلام وأصول اللغة، وغيرها من علوم الأصول.

دراسات التخصصات

دراسات التخصصات هي المجال الأول لتطبيق الدراسات الأصولية في دراسات فقهية بالمعنى الشامل، و دراسات التخصصات تشتمل على دراسات نقدية للعلوم والتخصصات المعاصرة، لا لرفضها تمامًا ولا لتبريرها، بل لإعادة صياغتها على أصول الوحي كليًا أو جزئيًا حسب المقام، وذلك للإبقاء على الصالح فيها من الأفكار وما ترتب عليها من نظريات ومصنوعات ومؤسسات، ونقض أو إعادة بناء ما يتناقض مع التصور الإسلامي الشامل، مع الإضافة والإبداع سواء في نفس العلوم بعد إعادة صياغتها أو عن طريق تعدد التخصصات تعليمًا وبحثًا وممارسة، والذي نقصد منهجياً إلى أن يكون سبيلًا لتعدي التخصصات ودعم دراسات الظواهر المعاصرة.
وهدف الاجتهاد التخصصي هو إعادة صياغة التخصصات الجامعية (الأكاديمية) المعاصرة التي تشكل تصنيف التخصصات المهنية في مجال الفكر الإنساني والتعليم الجامعي وفي سوق العمل في عالم اليوم، وذلك لتخليصها مما يشوب أصولها النظرية ومؤسساتها التفعيلية وتطبيقاتها العملية من التعارض مع أصول الوحي أو يؤدي إلى نتائج عملية تتعارض مع ثوابته ومبادئه ومقاصده ومفاهيمه وفئاته وسننه وقيمه وحججه وأوامره ونواهيه.
والدراسات التخصصية المعاصرة لها فروع كثيرة تربو اليوم على المئات، تندرج تحت أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية والتطبيقية حسب التقسيم الغربي الذي شاع في نظم التعليم المعاصرة في المدارس والجامعات في كل العالم، والاجتهاد التخصصي المنشود يتعامل مع هذه العلوم المعاصرة جميعاً من خلال الوعي بأنها كلها تنطوي على إشكالات تأسيسية في أصولها المادية والأدلوجية وتحتاج إلى مراجعات من أجل فتح آفاقها لصالح الإنسان – كعبد لله تعالى وخليفة في الأرض – قبل أن تكون أهدافها لصالح سوق العمل أو المصالح السياسية أو الاعتبارات الثقافية، وذلك من دون إغفال للإنجازات الرائعة التي تحققت من خلال التخصصات في عالم اليوم على كل المستويات، بل البناء عليها وتلافي قصورها المنهجي من المنطلق الإسلامي وما ترتب عليه من تفويت لمصالح كثيرة وإحداث مفاسد كثيرة، بمقياس الوحي للمصالح والمفاسد.
ويبدأ المجتهد في الدراسات النقدية التخصصية بأن يحاكم الأهداف النظرية للتخصص إلى مقاصد الوحي المنصوصة أو المستنبطة في سياق التخصص، من أجل أن لا تتعارض الأهداف التخصصية مع المقاصد ذات العلاقة التي يدلنا عليها الوحي، فيسأل الباحث: ما هو هدف دراسة هذا الفرع أو هذا الموضوع من علوم الطب أو الأحياء أو الاقتصاد أو التاريخ أو الاجتماع أو التربية أو غيرها؟ وهذه المراجعة لمهمة التخصص وهدف الدراسة ستدخل عنصر المقاصد من الوحي في أصل العلم وبالتالي في كثير من تفاصيله التي انحرفت حين ارتبطت بأهداف منحرفة أصلاً عن مقاصد الوحي.
وقد حان الوقت أن تتحرر الأكاديميات المتخصصة من الهيمنة المادية والاقتصادية واحتياجات السوق في تعريف أهداف ومفاهيم وفئات وسنن وقيم وحجج وأوامر ونواهي التخصصات العلمية وتأهيل أصحابها، مما يعوق الإنسان المعاصر في أي نظام تعليمي عن اكتساب العلم النافع والثقافة الشاملة والمعرفة الراقية وهم أهداف التعليم الأصلي، فضلاً عن الهدى والحكمة وعبادة الله تعالى وهم على رأس أهداف التعليم من المنطلق الإيماني، بل إن التعليم المبني على احتياجات السوق يعيق الإبداع والبحث والابتكار، إذ يحصر مجالات البحث والفكر داخل الأدلوجات التي رصدت لها موازنات التعليم الحكومي والخاص، والتي تقوم على استمرارها مهيمنة على الواقع التعليمي نظم محكمة من لجان المناهج ومعايير الاعتراف بالشهادات ولجان وسياسات تعيين وترقيات المدرسين والباحثين والأساتذة في كل مجال وعلى كل المستويات.

دراسات الظواهر

والقسم الثالث إذن هو دراسات الظواهر، والذي نهدف من خلاله إلى إنشاء منظومة إسلامية تعليمية وبحثية جديدة، مع الاستفادة من دراسات الأصول ودراسات التخصص ودراسات المؤسسات لدعم دراسات الظواهر، والاستفادة من كل جهد سابق في دراسات الظواهر المعاصرة بما لا يتعارض مع المنهجية المقاصدية، ونرى أن تشجيع دراسات الظواهر يمكن أن يسهم في تحرير الإنسان المعاصر من هيمنة المصالح الاقتصادية وعامل التمويل على خطط التخصصات التعليمية والبحثية، بما فيها الدراسات الإسلامية.
أما في التعليم الإسلامي في المراحل المختلفة، فالمقترح هنا أن يُضاف إلى مناهج الدراسات الإسلامية – حسب المرحلة التعليمية – جانباً من شبكة واسعة من الظواهر مما يمثل حقلاً معرفياً مستهدفاً، بدءاً من صورة عامة عن الظواهر الكبرى في عالمنا وانتهاء بالتخصص في جانب معين منها والتوسع في تفاصيلها، ثم ينضم الطالب – حسب مستواه – إلى شبكة من الدارسين لنفس الظاهرة من أجل بناء الشراكات من خلال الأفراد والمدارس والجامعات والمؤسسات التي تتعامل مع نفس الظاهرة نظرياً وعملياً.
وهذه المنهجية التعليمية المبنية على دراسات الظواهر ليست بدعاً من العلم، بل إن الوحي الكريم يتعامل مع الواقع في صورة ظواهر – لا في صورة تخصصات – ويعلمنا عنها من جميع جوانبها وأبعادها وتعلقاتها في صور شتى حريّة بالتحليل والدراسة والاستفادة منها. فمن خلال دراسة آيات من القرآن وأحاديث مختارة ذات علاقة بتلك الظواهر يتأسس الطالب في المراحل المختلفة في علوم الأصول واللغة والتاريخ والطبيعة والحساب وغيرها، ثم يبني تصوراته الأساسية عن الحياة والكون والتاريخ عن طريق عناصر الدراسة التي اقترحناها مطبقة على تلك الظواهر الواقعية كونية كانت أو إنسانية، وهي عناصر المقاصد والمفاهيم والفئات والسنن والقيم والحجج والأوامر، وما يتولد عنها من نظريات ومبادئ إسلامية تمثل الأطر العامة للتصور والتصرف، وذلك في تركيب وتكامل مع دراسات نظرية وتطبيقية مصممة بدقة لمجموعة مختارة من الظواهر حسب المرحلة التعليمية، يدرسها الطالب جميعاً بأسلوب يعتمد على المناقشة المفتوحة والبحث.
ولا يخفى ما تتطلبه هذه المنهجية من تطوير لقدرات المعلم وتصميم المدارس والجامعات والمناهج والكتب المدرسية والجامعية والمعامل ونظام الرحلات الاستكشافية المدرسية والجامعية، مما يحتاج إلى بحث واسع وتخطيط وتنفيذ وإرادة سياسية كافية من حكومات تدعم هذه المقاربة، أو تجرد من بعض أصحاب الأعمال أصحاب الوعي الكافي بأهمية العلم وهم في نفس الوقت من المخلِصين الذين تطيب أنفسهم بكسر احتكار سوق العمل للتعليم.
وهذه أمثلة لبعض التخصصات الجديدة التي يمكن أن تعرّف بناء على ظواهر معاصرة، يدعو معهد المقاصد الجامعات الإسلامية لتبنّيها: دراسات الفقر والعدالة الاجتماعية، دراسات الأرض وأزمة البيئة، دراسات الأوبئة والكوارث، دراسات الاستبداد والحكم الرشيد، دراسات الصناعات والاستثمار الحلال، دراسات الحضارة والثقافة، دراسات العنصرية وطبقة الواحد بالمائة، دراسات التقنيات والابتكار، دراسات الإسلام في منطقة معينة كأفريقيا أو وسط آسيا أو جنوب شرق آسيا أو أوروبا أو أمريكا، دراسات حال اللغات المعاصرة وعلى رأسها حال اللغة العربية، ويمكن أن نقيس على ذلك فروع جديدة نستحدثها في المؤسسات التعليمية الإسلامية ليتخصص فيها الطالب على كل المستويات. أما في مستوى الدراسات العليا فتبدأ بأن يدرس الطالب مقررات تأسيسية في أصول علوم الوحي، ثم مقررات تخصصية من منظور نقدي، ثم ينضم إلى شبكة دراسات الظواهر المتعدية للتخصصات حسب الخطة البحثية.
أما خطط البحث في الدراسات الإسلامية في المجالات المختلفة، فهناك حاجة ملحّة أن يزيد الاهتمام والدعم للدراسات المقاصدية في الظواهر المعاصرة، وذلك حتى يسهم البحث الإسلامي في العمل نحو تحقيق المقاصد في الواقع على كل المستويات. وبالتالي فأولويات الخطط البحثية في الظواهر لابد أن ترتب حسب تعلق تلك الظواهر بالمعاني المقاصدية المركزية في شبكة معاني الوحي.

دراسات المؤسسات

المؤسسية ليست اختراعاً حداثياً ولا نسقاً غريباً على الحس الإسلامي الأصيل، فمنذ فجر الدورة المحمدية للحضارة الإسلامية – على صاحبها الصلاة والسلام – والمؤسسية والتنظيم هو ديدن الأمة في كل أفعالها الحضارية على كل المستويات التعليمية والحكومية والاجتماعية والثقافية والمهنية والعسكرية والمالية. ويكفي مثلاً على عمق المؤسسية في التصور الإسلامي تاريخ الوقف كمؤسسة بحاجة إلى تفعيل واسع في قلب العمل المؤسسي الإسلامي على كل المستويات وفي كل المجالات.
وتمثل الدراسات المؤسسية رابع ولعله أعقد مجال من الدراسات التطبيقية للمنهجية المقاصدية المقترحة، ذلك لأن تلك الدراسات لابد أن يتحقق فيها التناغم رأسياً بين الأفكار والأطروحات المنهجية فيها، وأفقياً بين المؤسسات المختلفة في تعاونها على تحقيق الأهداف العليا والخطط بعيدة المدى حسب المعايير المقاصدية.
ورغم تشابك الدراسات المؤسسية المذكورة، إلا أننا يمكننا أن نميز مستويين من الدراسة والتفعيل، أحدهما يتعلق بالتخطيط للأمة الإسلامية كمؤسسة كبرى جامعة – وقد قلّ من يخطط لها – بناء على الحصيلة البحثية للدراسات التأصيلية والتخصصية والظواهرية، وذلك للتخطيط لتلك الدراسات نفسها وتوجيهها إلى مستقبل أفضل للأمة وللإنسانية بشكل عام، وهي مهمة مركبة لاستشراف الواقع والسعي لتغييره، وثانيها يتعلق بالتخطيط للمؤسسات التنفيذية بمختلف أحجامها وقدراتها، وذلك للسعي بها نحو تحقيق أجزاء من الأهداف الكبيرة للأمة.
والمقاصد في التصور المؤسسي المركب هي بُعد الغايات والأهداف للمؤسسات على كل المستويات، وتقييم الواقع من خلال تحقيق تلك الأهداف هي مقاربة مستقبلية ونقدية وشاملة كما ذكرنا، وذلك حتى يعاد توجيه الرؤى والأهداف والمهمات والهياكل المؤسسية في ضوء المقاصد الأصيلة التي يصل إليها المجتهدون ويرضونها كأهداف تسعي إليها المؤسسات في سياقات مقاصد الأمة والإنسانية بشكل أوسع.
والمفاهيم هي بُعد الأفكار والتعبيرات التي تعبر عن الواقع على كل المستويات، وقد جد في عالمنا مفاهيم دخلت في تعريف الواقع ودراسات الخطط بعيدة المدى، كالسلطة الناعمة، وتأثير الفراشة، ونظرية الفوضى، والمنظومات، والحوكمة، والفعل المدني، وشبكات التواصل، والفيضان المعلوماتي، والتاريخ الموازي، والسيناريوهات، والشراكات، وما إلى ذلك. ولابد إذن للمجتهد التخطيطي من بعض العمق في استيعاب تلك المفردات ودمجها في تصوره من خلال المنهجية المقاصدية، وذلك بالإضافة للتعمق في تصور بعض مفاهيم الوحي الأصيلة في السياق الواقعي، كالأرض، والإنسان، والشعوب، والإصلاح، والحكم، والخير، والعدل، والقسط، والحق، إلى آخره، وأن يتجاوز التحيزات والانحرافات الثقافية التي طرأت على تلك المفاهيم إلى نظرة أوسع على الواقع ورؤية شاملة.
ويتعلق بالمفاهيم تعريف الفئات، وقد جد في عالمنا أيضاً فئات أصبحت جزءً من توصيف الواقع وتحتاج إلى وعي خاص للمشتغلين بالتخطيط، كنادي الواحد بالمائة، وجماعات المصالح، وأصحاب الحصص أو المالكين، وأصحاب الشراكات، والداعمين، والإرهابيين، والدبلوماسيين، والحركيين، والنشطاء، ومن إليهم، ولابد للمجتهد التطبيقي كذلك أن يتجاوز التحيزات المغرضة في تصنيف الفئات إلى نظرة أوسع وأصدق، وأن يمتلك الجرأة على إعادة تصنيف الفئات في رؤيته وتصوره من خلال المنظور الإسلامي الرشيد ومن خلال الفئات التي يعرفها الوحي، كما ذكرنا آنفاً.
وإدراك الواقع لابد أن يمر عبر إدراك التاريخ، وتاريخ الإسلام خصوصاً – بالمعنى الشامل للتاريخ الإنساني كما مر – وتاريخ الظاهرة أو المجتمع أو المؤسسة الذي يتعامل معها المجتهد التخطيطي على درجة من الأهمية حتى يقيس الحاضر على الماضي حسب السنن الإلهية في التداول والتدافع والدورات والتغيير والتنوع وغيرها، ولكن عليه أن يحذر من قياس مع الفارق للتاريخ على الواقع، فكلما بعدت السنين والقرون كلما كان القياس تقريبياً واحتمال الخطأ فيه أكبر، والتاريخ يكتبه المنتصرون على أي حال وكثيراً ما يكونون من أهل البغي لا من أهل الصلاح، بل يعلمنا القرآن أن أصحاب الأهواء يحرّفون حتى تاريخ الأنبياء وما أُنزل من عند الله من الكتاب. ولذلك فالتاريخ الدقيق الثابت هو فقط ما نتعلمه من الوحي، ولكنه يتطلب وعياً مركباً بالأسباب والمسببات حسب السنن الإلهية وفي ضوء دروس الوحي في تاريخ صراع الحق والباطل. ولابد كذلك من اهتمام خاص – كما استنبطنا من دراسة الوحي – بدور الصناعات الإبداعية والقوة الجماعية والتعليم الشامل والقيادة الحكيمة والحوكمة الرشيدة في القيام بتغييرات تاريخية، فأثر هذه العوامل كلها من السنن الإلهية في التغيير.
والحصيلة في تصور الواقع لابد أن تكون شبكة من العلاقات المركبة التي يوصّف بها المجتهد الواقع من حوله في صورة مجموعة من العناصر المتفاعلة التي تمثل تصوره عنه، حتى يخرج بقدر الإمكان من النظرات التجزيئية إلى التركيب والمنظومية في حساب احتمالات المستقبل ويتجاوز إدارة الأزمة وإطفاء الحرائق إلى الإدارة بعيدة المدى والحوكمة الرشيدة علي كل المستويات.

للمزيد من المعلومات حول مجموعاتنا البحثية، يرجى التواصل معنا

الدراسات المختلفة التي تقترحها المنهجية المقاصدية وتنفيذ الخطط المؤسسية المتولدة عنها يحتاج إلى اجتهاد جماعي متعدد الأبعاد لتفعيله، وأفضل نظام نتعلمه من السنن الإلهية في تحقيق مقاصد الخالق من الخلق هو النظام التواصلي المقاصدي، ولذلك فلابد من صناعة شبكة تفاعلية من المجتهدين المقاصديين على كل المستويات، لكي تترجم الاجتهاد المقاصدي إلى تصور نظري وواقع معيش، وهذه الشبكة تتكون من مجموعة من الشبكات الفرعية المقسمة على أنواع الدراسات الأربعة، أي دراسات الأصول، والدراسات التخصصية، ودراسات الظواهر، ودراسات المؤسسات، ولها أبعاد ثلاثة حسب الأبعاد التفعيلية المقترحة، وهي البحث والتعليم والمؤسسات.

والقدرة على التفاعل بين الدوائر المختلفة من أنواع المجتهدين الذين ذكرناهم – المؤصِل ودارس الظواهر والمتخصص والمخطط – هي من شروط الاجتهاد عندهم جميعًا، وهكذا تتكامل الجهود لشبكة الاجتهاد المقاصدي، ويرتفع فيها مستوى التطبيق من التأصيل النظري إلى التفعيل المؤسسي، ويتنزل في نفس الوقت مستوى التنظير من رفع الواقع إلى إعادة صياغة التخصصات والبحوث. ولأن هذا النشاط الإنساني المتنوع مرتبط في كل أبعاده المنهجية بشبكة معاني الوحي والتصور الكوني المستمد من الوحي، والذي يقع في قلب كل هذه الدوائر المتفاعلة، فإننا نرجو من الله تعالى بذلك أن يتغير واقعنا المعاصر نحو تحقيق مقاصد الخالق تعالى من خلقه، نحو ما فيه صلاح أحوالهم في المعاش والمعاد.

في ضوء قيم الجمال والرحمة والكلية التي ينتهجها الإسلام، فإن معهد المقاصد يستهدف ويدعم البحث في مقاصد خلق الكون بكل ما فيه من تواصل، والبحث في وسائل التواصل الإنساني كذلك.