الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد،وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد..
فإن مقصد السماحة من أعظم مقاصد الشريعة الغراء حيث يسري في كل جوانبها ومجالاتها كالماء في عروق وأغصان وورق الأشجار.
وهو يعني: السهولة واليسر فلا تكلف ولا تعقيد ولا تعصب ولا تفلت ولا إفراط ولا تفريط،بل توسط بين التضييق والتشديد والتساهل والتضييع.
وضابط مقصد السماحة: التقيد بالقدر الممكن من التكاليف، وفعل الأوامر على الحد الأوسط المعتدل، وفي نفس الوقت لا يعني ترك التكاليف أو التهاون أو التساهل فيها، فهو يرفض كل صور التضييع والتقصير.]
ومن المعلوم أن مركزية الوحي ورؤيته الكلية لم تترك شاردة ولا واردة إلا أحصتها فنجد الوحي أعطى مقصد السماحة مساحات واسعة رغم أنه لم يرد صراحة فيه،ولكن جاء بمعناه حيث: العفو والصفح وعدم الإكراه واليسر والسهولة ورفع الحرج والتعارف والتراحم وخفض الجناح،وبهذا فإن المقصد وفق الرؤية القرآنية الكلية يقوم على معلمين:
الأول: التسامح ويعني إشاعة جو من التعايش والمحبة والسلام والإخاء بين الناس جميعاً ورفض كل صور التعصب والإقصاء والتهميش. وهذا المعنى ذكره القرآن الكريم في مواضع كثيرة وفصل فيه لأهميته ولكونه عصب الحياة البشرية وجسر العبور إلى تعارف شعوب الأرض حيث إعتبر القرآن الإنسانية أسرة واحدة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]
ونجد من معاني السماحة الدعوة إلى العفو والصفح في قوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 134] وقوله عز وجل: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [فصلت: 34] وفي قوله: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾ [البقرة: 109] ونجد من معاني السماحة الدعوة إلى عدم الإكراة وترك الحرية للبشرية في اختيار معتقداتها وأداء شعائرها قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] وقال تعالى:﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29] وقال تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6]
الثاني: رفع الحرج وسهولة التكاليف فوحي الله ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته ومراعاة إمكانياته وقدراته.
ومن مظاهر هذا المعنى: اليسر والسهولة والتخفيف والبساطة حيث تؤدى فيها التكاليف والأوامر كمسيل الماء الجاري بكل طمأنينة وثقة فالمؤمن يشعر برحمة الله وكرمه وجوده،
قال عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185 ]
ويقول سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً﴾ [النساء: 27/ 28] ويقول جل شأنه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 87 ] ويقول تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6 ]
ومن مظاهر هذا المعنى كذلك: رفع الإصر والعنت والأغلال فمن مهام نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157]
أما السنة النبوية المطهرة فإن مقصد السماحة يدور حول معنيين عظيمين:
الأول : اليسر والسهولة في أداء التكاليف: فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم دينه بالسمحة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ:
«الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ. »
الثاني: الجود والكرم والعطاء والسهولة في المعاملة مع بني البشر ،عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى، وإذا اقتضى.»
ورغم عظم هذ المقصد ووضوحه إلا أنه أصيب بمجموعة من الإشكاليات والانحرافات سواء في الفكر أو السلوك ووقع بين فريقي الإفراط والتفريط.
ففريق الإفراط: يتناول الدين وقضاياه بشدة وتعصب وتمسك بأراء بعيده عن الوحي وتعاليمه حيث الحرفية والسطحية وعدم الروية وهذا بسبب ضعف التعمق في فهم الوحي ونظرته الكلية والوقوع في القراءة التبعيضية والجزئية.
وهذا بدوره أحدث شروخاً في المنظومة المفاهيمية والسلوكية وقدمت صورة مشوة عن الإسلام وشريعته وزهد الناس في تعاليمه والدخول فيه
وفريق التفريط: يريد أن يصنع تديناً على هواه فتفلت وتساهل وتسيب في التعامل مع تعاليم الوحي بحجة السماحة… والوسطية… ومسايرة العصر …والتقدمية، فانحرف عن المفهوم الصحيح لسماحة الإسلام بكل معانيها وقدم صورة مشوهة عن الوحي الإلهي وتعاليمه.
والمطلوب أن يعود لهذا المقصد صفائه ورونقه وجماله: حيث التوسط والاعتدالا واليسر والسهولة والجود والكرم، لأن النفس البشرية بطبيعتها ترفض كل صور الشدة والعنف والتعنت والتعصب والطمع والبخل،وتحب الرفق واللين والسهولة والجود والكرم و السخاء ، وبهذه المعاني دخل الناس في دين الله أفواجا،
والواقع أننا في حاجة إلى أن نقدم الإسلام للبشرية بهذا الصفاء والراقي لنقيم الحياة الطيبة ونحقق التعايش السلمي مع كل الأجناس والملل والنحل بعيداً عن التعصب والإقصائية والتهميش،والانفتاح غير المنضبط.