الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد،وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد..
فإن القرآن الكريم كتاب هدايه وبيان وشفاء ورحمة و تذكرة وعبرة وإدكار وفرقان قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ﴾ [الإسراء: 82] وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: آية9] وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: آية57 ] فهو منهج حياة للإنسانية جمعاء لكونه نظاماً واقعياً عملياً جاء لتولى قيادة الحياة وتوجهها وتنظيمها ورقيها وسعادتها،فهو هو مصدر العلم والمعرفة منه يستمد الإنسان علومه ومعارفه وكل ما يفتح به أسرار الكون والنفس والحياة لكونه يحمل رؤية كلية للدنيا والآخرة فهو الحاكم والمرجع والمقياس والميزان توزن فيه المعتقدات والأفكار والأقوال والأعمال والأحوال . ولن تتحقق هذه الرؤية الكلية للكتاب العزيز إلا بإحياء جلسات التدبر ،قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82] وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]
:ومن خلال إحياء هذه الجلسات والجولات صال و جال الأفذاذ من الراسخين في العلم قديماً وحديثاً في بحار القرآن ليستخرجو درره وجواهره ومقاصده الأصيلة الحاكمة ومن هؤلاء
الإمام أبو حامد الغزالي في:(جواهر القرآن) فقدحصر مقاصده ونفائسه في ستة أنواع: دعوة العباد إلى الجبار الأعلى،وحصرت سور القرآن وآياته في ستة أنواع: ثلاثة منها: هي السوابق والأصول المهمة. وثلاثة: هي الروادف والتوابع المغنية المتمة. أما الثلاثة المهمة فهي: تعريف المدعو إليه،وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه،وتعريف الحال عند الوصول إليه. وأما الثلاثة المغنية المتمة: فأحدها: تعريف أحوال المجيبين للدعوة،وتعريف أحوال الناكبين والناكلين عن الإجابة، وثانيها : حكاية أحوال الجاحدين، وكشف فضائحهم، وثالثها : تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأهبة والاستعداد.
والإمام العز ابن عبد السلام في: (قواعد الأحكام) أجمل مقاصده في محورين عظيمين: جلب المصالح ودراء المفاسد، والإمام الشاطبي في: (الموافقات) جمعها في إثني عشر علماً فقد ذكر الستة أقسام التي ذكرها أبو حامد .الغزالي، وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة،وهي: ذكر الذات، والصفات، والأفعال، والمعاد، والصراط المستقيم، وهو جانب التحلية والتزكية، وأحوال الأنبياء، والأولياء، والأعداء، ومحاجة الكفار، وحدود الأحكام
والإمام الألوسي حصرها في:( روح المعاني) في: «التوحيد والأحكام الشرعية وأحوال المعاد». والإمام ابن جزي في :(التسهيل لعلوم التنزيل) بين أن مقاصد القرآن تكمن في دعوة الخلق إلى عبادة الله و الدخول في دينه، ثم إنّ هذا المقصد يقتضي أمرين لا بد منها وإليهما ترجع معاني القرآن كله: أحدهما بيان العبادة، والأخرى ذكر بواعث تبعثهم على الدخول فيها وتردّدهم إليها، فأما العبادة فتنقسم إلى نوعين، وهما أصول العقائد وأحكام الأعمال، وأما البواعث عليها فأمران وهما: الترغيب والترهيب، ثم فصل في ذلك وأطال النفس.
وفي العصر الحديث عدها الإمام الطاهر بن عاشور في: (التحرير والتنوير) في ثمانية مقصد هي: إصلاح الاعتقاد، وتهذيب الأخلاق، والتشريع، وسياسة الأمة، والقصص، والتعليم، والمواعظ، والإنذار، والإعجاز.
ورتبها العلامة السيد رشيد رضا في: (المنار) في عشر مجالات وهي: إصلاح أركان الدين، بيان ما جهل البشر من أمر النبوة، بيان أن الإسلام دين الفطرة والعقل والعلم والحكمة والبرهان والحرية والاستقلال، الإصلاح الاجتماعي الإنساني السياسي، التكاليف الشخصية من العبادات والمحظورات، العلاقات الدولية في الإسلام، الإصلاح المالي والاقتصادي، دفع مفاسد الحرب، إعطاء النساء حقوقهن، تحرير الرقاب من الرق.
والعلامة الزرقاني في: ( مناهل العرفان ) جمعها في ثلاثة مقاصد رئيسية أن يكون هداية للثقلين وأن يقوم آية لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتعبد الله خلقه بتلاوة هذا الطراز الأعلى من كلامه المقدس.
و العلامة الغزالي في: ( المحاور الخمسة للقرآن ) لخصها في: الله الواحد، وكونه الدال عليه، والقصص القرآني، والبعث والجزاء، والتشريع، ويتفرع تحت هذه المقاصد مسائل وقضايا أخرى.
و العلامة القرضاوي حددها في: ( كيف نتعامل مع القرآن ) في سبع وهي: تصحيح العقائد في التصورات للألوهية والرسالة والجزاء، تقرير كرامة الإنسان وحقوقه، الدعوة إلى عبادة الله، تزكية النفس البشرية وتقويم الأخلاق، تكوين الأسرة الصالحة وإنصاف المرأة، بناء الأمة الشهيدة على البشرية، الدعوة إلى عالم إنساني متعاون.
ويسميها العلامة العلواني المقاصد الشرعية العليا الحاكمة في: ( مقاصد الشريعة ) ونظمها في محاور ثلاثة جامعة: التوحيد، والتزكية، العمران . ومنهم من حصرها في ثلاثة مقاصد: ما يتعلق بالإيمان وهو مباحث علم الكلام. و ما يتعلق بافعال القلوب وهو علم التزكية والتصوف، وما يتعلق بافعال الجوارح في الأوامر والنواهي، وهو مباحث علم الفقه والمعاملات.
ومع وجود المقاصد الأصيلة العامة للقرآن الكريم إلا أن هناك مقاصد جزئية فهو لا يقتصر على المقاصد الأصيلة الحاكمة فقط، بل هناك مقاصد جزئية كمقاصد السور والتي أشار العلامة محمد عبد الله دراز في: ( النبأ العظيم ) إلى مقاصد سورة البقرة مثلاً فذكر مقصد دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام، ومقصد دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين، ومقصد عرض شرائع هذا الدين.
بل إن لكل آية من آيات الكتاب العزيز مقصداً وهذا ما نلاحظه في حديث القرآن الكريم عن الكثير من الحكم والعلل والأسرار والغايات في آياته ومن ذلك: حكمة تشريع الحج والتي هي تحصيل المنافع وذكر الله حيث أشار إلى أهداف هذا في قوله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾. [الحج: 27 / 28]
وحكمة تشريع الزكاة قال عز وجل: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة الآية: 103 ] وحكمة تشريع الصيام قال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [ التوبة الآية: 103]
وحكمة تشريع الزواج والتي تتمثل في السكن والمودة والرحمة قال تعالي: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ {وَجَعَلَ﴾ [الروم: 21] وحكمة اعتزال النساء في المحيض التي هي دفع الأذى يقول عز وجل: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾[ البقرة: 222]
وبعد هذ العرض لكلام علمائنا الأجلاء في القديم والحديث للمقاصد العليا والجزئية للقرآن أستطيع أن أقول: إن المقصد العام للقرآن الكريم هو : ( صلاح العالم ) سواء بإصلاح عقله بالتوحيد والعلم والمعرفة، أو قلبه وروحه ونفسه بالتزكية والتربية والتهذيب، أو جوارحه بالأحكام والمعاملات وتحقيق العمران، وهذا المقصد العام لن يتحقق إلا بصناعة أمة (اقرأ) حيث الريادة و الشهادة والأستاذية والخيرية والعالمية فهي القاطرة والراحلة، فهل تعود للأمة مهمتها ورسالتها ؟