الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد،وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد..

فإن القرآن الكريم هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه :{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] نزل ليكون هو المصدر الأول للتلقي والمرجعية العليا والحاكمة و المهيمنة على حياتنا المعرفية والفكرية والسلوكية العلمية والعملية.

 و لإعادة هذه الهيمنة للكتاب العزيز نحتاج إلى العمل على إزالة الأمية العقلية نحوه والتي وقعنا فيها بسبب حالة الهجران التي أصابت واقعنا الفكري والسلوكي وأصبحت علاقتنا مع القرآن الكريم (مجرد قراءة وحفظ ألفاظه) بلا فهم ووعى وتدبر،رغم أن غاية نزوله (التدبر والتفهم) للوصول به إلى العمل والتطبيق والتنزيل والهيمنة على كل نواحي ومناحي الحياة،قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]

وتعجب سبحانه عزوجل ممن هجروا تدبره ومعايشته وتفهمه رغم وضوحه وتيسيره للذكر فقال جل شأنه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وقال سبحانه:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] 

وبسبب هجران التدبر  وفقدان المنهجية وضعف تفعيل وسائل الفهم الصحيحة في التعامل معه أصابنا ما أصاب الأمم السابقة من ضعف الفهم وسعة الأفق والنظرة المستقبلية وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم لزياد بن لبيد،قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: «وذاك عند أوان ذهاب العلم» قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا،ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟قال: «ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة،أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء؟» مسند أحمد (29/ 17) 

فإزالة هذه الأمية نحو الكتاب العزيز يتطلب منا: أولاً: أن نتعامل معه على أنه منهج حياة وكتاب إصلاحي جامع شامل عالمي خاتمي يعطي نظرة واضحة ومتكاملة ومتوازنة للكون والحياة قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] 

فهو يقف على الماضي بمنهجه القصصي،ويعالج الواقع، ويرسم المستقبل بمنهجه السنني ومقاصده العليا. 

فعطائه زاخر فياض لا ينقطع لأي زمان ومكان،بل يتعدى عالم البشر إلى عالم الجن الذين قالوا عنه عند سماعه:{ قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 1، 2]وفي موضع آخر:{يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأحقاف: 30]

فهو يهدي إلى كل رشد وطريق مستقيم ،حيث يحمل الوعى الكامل والرؤية المتوازنة المتجددة لكل شئون الدنيا والآخرة،لأن عجائبه لا تنقضي فهو المعجزة الخالدة والمخرج من كل ضائقة ففي الحديث: «ألا إنها ستكون فتنة». فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم،وحكم ما بينكم،وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين،وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم،هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد،ولا تنقضي عجائبه،هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 1، 2] من قال به صدق،ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.» سنن الترمذي (5/ 172)

 ثانياً: نتعامل مع القرآن الكريم على أنه الكتاب المحفوظ والمعصوم والباقي من وحي السماء والحافظ لكل ما جاءت به الأنبياء والرسل،فكل الكتب قد حرفت وبدلت وشوهت،قال سبحانه:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]

أما القرآن الكريم فهو المحفوظ المصون من التبديل والتحريف والذي تولى حفظه وصيانته هو من أنزله سبحانه ولم يتركه لأحد كما ترك الكتب السابقة لأصحابها فضاعت قال جل شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9] 

وهذا الحفظ جعله المرجع والمهيمن والمصحح لكل شئ لكونه يحمل أصول الرسالات السماوية. ويحمل الشهود التاريخي وأخبار الأمم السالفة بجمال عرضه وكأنك تعيش الأحداث وتراها.

و يحمل الشهود الحضاري حيث به قامت أمة أقرأ  بحضارتها  الفذة القوية التي لم ترى الدنيا لها مثيلاً في القيم والمعارف والعلوم والفنون والعمارة والجمال فحققت الاستخلاف والعمران. 

ويحمل القرآن الشهود الحضاري حيث النظرة المستقبلية بما فيه من أصول ومبادئ وقواعد ومنهجية تتميز بالربانية والإنسانية والشمول والوسطية والعالمية والخاتمية والثبات والتطور والمرونة والفطرة  والعقلانية والوضوح حيث تناسب كل عصر ومصر وتستوعب كل جديد ومستحدث إلى قيام الساعة لكونه منهج رب العالمين قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 – 195].  

كل هذه المعاني وغيرها تستدعي التعامل الأمثل مع القرآن الكريم من خلال الوقوف على منهجية في التدبر والفهم توصلنا إلى الخروج من الشكلية والظاهرية والسطحية إلى الوعى والفكر والعمق والرؤية الواضحة والمستقبل الواعد والذي بتحققه تخرج الأمة من أزمتها وتنهض من كبوتها وتعود لها الريادة والشهادة وتحقق مقومات وشروط الاستخلاف. 

وهذا لايكون إلا بكسر الأقفال والمغاليق التي على العقول والقلوب وتفعيل دورات التدبر والتي تعين على الوقوف على: (المقاصد والمفاهيم والفئات و السنن الإلهية والقيم والحجج والأوامر  والنواهي) وبناء تصور مركب للكتاب العزيز لكونه وحدة موضوعية يفسر بعضه بعضاً.

وهذا بدوره يجعلنا نصل الماضي بالحاضر والتراث بالمعاصرة لنصنع المستقبل المشرق ونخرج من حالة التقليد والجمود إلى حالة التجديد والإبداع،وهذا هو الطريق الصحيح لعودة الكتاب العزيز إلى مكانته والتي أنزل من أجلها،وإن أي محاولة إصلاحية تتجاوز هذه المنهجية فهي محاولات بائسة لن يكتب لها النجاح. 

 الدكتور:عماد عبدالله
 عضو بشبكة البحث المقاصدية

Share it on your

Start a Conversation:

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *