أثر مركزية القرآن في تجاوز نكبة وفاة رسول الله

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد،وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد..

شكّلت وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام لحظة فارقة في تاريخ الأمة الإسلامية، إذ واجه الصحابة الكرام امتحانًا عظيمًا هزّ القلوب والعقول. ومع ذلك، فقد هيّأهم القرآن الكريم مسبقًا لهذه الصدمة، وربّاهم النبي على وعي قرآني راسخ جعلهم قادرين على تجاوزها بحكمة وثبات. هذا المقال يحاول أن يستعرض ملامح هذا الإعداد القرآني، وكيف انعكس في مواقف الصحابة بعد وفاة نبيهم، مستعينًا بآيات الكتاب العزيز وبتحليلات كبار المفسرين والمفكرين.

تمهيد قرآني لمواجهة الحقيقة

من حكمة الله وحفظه لهذه الرسالة أن هيأ الصحابة لمرحلة ما بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام من خلال آياته سبحانه وتعالى، فكانت إشاعة مقتل رسول الله عليه الصلاة والسلام درسًا مهمًا للصحابة في مواجهة هذه الحقيقة لاحقًا. ومن عظمة سياق القرآن أن عبّر بالتخيير: “مات أو قتل”، بينما سياق الحادثة كان إشاعة قتل رسول الله. وهنا يعلّق الرازي في تفسيره على هذه الآية بقوله: “لَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ شَكٌّ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ، فَإِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ سَوَاءٌ وَقَعَ هَذَا أَوْ ذَاكَ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي ضَعْفِ الدِّينِ وَوُجُوبِ الِارْتِدَادِ”.

لقد كان ذلك كله ليُقعّد لحالة فقدان رسول الله مستقبلا، وتنبيه الصحابة بالحذر من الوقوع في الارتداد أو كما عبر عنه سبحانه: “الانقلاب على الأعقاب”. قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَـٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًۭٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ)(آل عمران:144)

ويفسر الرازي معنى هذه الآية قائلا: “وَمَعْنَى الْآيَةِ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فَسَيَخْلُو كَمَا خَلَوْا، وَكَمَا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ بَقُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ بَعْدَ خُلُوِّهِمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ بَعْدَ خُلُوِّهِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ، لَا وُجُودُهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِ قَوْمِهِمْ أَبَدًا”.

تذكير حتمية الموت

جاء أيضا تأكيد آخر لهذه الحقيقة المفجعة في سورة الزمر آية (30)، وهي أن الرسول سيموت لا محالة: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)

وقد علّق ابن عاشور في التحرير والتنوير على هذه الآية قائلا: “فَحَصَلَتْ بِهَذَا فَوَائِدُ:…. وَمِنْهَا إِشْعَارُهُمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُوتُ كَمَا مَاتَ النَّبِيئُونَ مِنْ قَبْلِهِ لِيَغْتَنِمُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَيَحْرِصُوا عَلَى مُلَازَمَةِ مَجْلِسِهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا فِي مَوْتِهِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي غَيْرِهِ، وَمِنْهَا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ سَوَّى فِي الْمَوْتِ بَيْنَ الْخَلْقِ دُونَ رَعْيٍ لِتَفَاضُلِهِمْ فِي الْحَيَاةِ لِتَكْثُرَ السَّلْوَةُ وَتَقِلَّ الْحَسْرَةُ”.

وكذلك جاء في سورة الأنبياء آية(34) بيان آخر: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍۢ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ ۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَـٰلِدُونَ)

وقد علّق الرازي على هذه الآية بقوله: “يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ جَازَ أَنْ يُقَدِّرَ مُقَدِّرٌ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ إِذْ لَوْ مَاتَ لَتَغَيَّرَ شَرْعُهُ فَنَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّ حَالَهُ كَحَالِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْمَوْتِ”.

اكتمال الرسالة وإعداد النفوس

وفي سورة المائدة جاء الإعلان الصريح عن اكتمال الدين واستيفاء الرسالة، لتكون تمهيدًا لمرحلة ما بعد النبوة:

(ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَـٰمَ دِينًۭا) (المائدة:3)  وقد فهم الصحابة هذه الآية على أنها نعوة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، كما قال الألوسي في تفسيره:

“وادعوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله في تحليل ولا تحريم، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يلبث بعد سوى أحد وثمانين يوما، ومضى- روحي فداه- إلى الرفيق الأعلى. وفهم عمر ما سمع الآية نعي رسول الله عليه الصلاة والسلام “.

مركزية القرآن في تصرفات الصحابة

 هكذا أعدّ القرآن الصحابة لهذه اللحظة العظيمة من تاريخ الأمة، لحظة فقدان الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى لا تزلزلهم الصدمة ولا ينهاروا أمامها. 

ولكن قد سبق ذلك اعداد قرآني وأسوة رسول لجيل التلقي، فلم يكن الصحابة في تيهٍ ولا ضياعٍ بلا دستور أو مرجعية، فقد عاشوا مع محمدٍ القرآن، وعرفوا رسالته ووعوا كمالها، وأدركوا أن اتباع ما أنزل إليه من ربه هو الهدي والنجاة. يومها لم تكن قد وُضعت تلك الروايات المزعومة التي حيكت لتصنع روايات”الرزية”، “الغدير” “الكساء” و”قتل عمار” و”طاعة الأمير”… روايات قصد بها تشويه رسالة رسول الله.

إنه ليحسب للصحابة تجاوز نكبة وفاة رسول الله  في ضوء فهمهم العميق للنص القرآني و لرسالة نبيهم، و تعاليم ربهم، وهيمنة القرآن عليهم ومركزيته. فكانت الشورى طريقهم كما أمرهم الله ورسوله، لا فلتة ولا صدفة ولا خطأ.

وفي تجليات العلواني في كتابه”إشكالية التعامل مع السنة النبوية” رصد هذا التحول بعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ليبين أن وفاة رسول الله لم تكن مفاجئة، ولكن الفراغ الذي تركه صاحب الرسالة ما كان يمكن أن يُمْلا بسهولة ويُسْرٍ، وتلك سُنَنُ النَّبِيِّينَ. فهارون يُعَدُّ شَرِيكًا لِمُوسَى في النبوة إضافة إلى اشتراكهما بالنسب، وحين خَلَفَهُ في قومه لمدة أربعين يومًا فقط حين ذهب لِمِيقَاتِ رَبِّهِ تَفلَّتَ بَنُو إسرائيل من كل ما جاء به موسى، وَاسْتَضْعَفُوا أخاه وخليفته وشَرِيكَهُ في النُّبُوَّةِ هَارُونَ وَعَبَدُوا عِجْلاً جَسَدًا له خُوَارٌ.

لَكِنَّ مَتَانَةَ البِنَاءِ الذي أقامه القرآن وَشَادَهُ النبي عليه الصلاة والسلام استطاعت الصُّمُودَ، وقاومت رِدَّةَ القَبَائِلِ العَرَبِيَّةِ، وحافظت على وَحْدَةِ الأمة التي كادت أن تنتهي، وأعاد الناس إلى المَحَجَّةِ البيضاء، وكل ذلك قد قام به قادة جيل التلقي من بعده عليه الصلاة والسلام، وفي مقدمتهم أبو بكر، وعمر، وعلي، وأم المؤمنين عائشة، وبَقِيَّةُ قُرَّاءِ الصحابة وَقَادَتِهِمْ.

وبَقِي الإسلام بَيِّنًا واضحا لم يشعر المسلمون رغم الفراغ الذي أعقب وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام بفراغ تشريعي، فْالحَلالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وبينهما أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ يَسِيرَةٌ يُمْكِنُ بقليل من التأمل، والتدبر، والاجتهاد أن تُدْرَجَ تحت الجزئيَّات التي عالجتها كُلِّيَّاتُ القُرْآنِ المَجِيدِ، وَعُمُومَاتُهُ وَظَوَاهِرُ آيَاتِهِ.

لقد تجاوز الصحابة النكبة لأن القرآن سبق أن أعدّهم لها، ولأنهم أدركوا أن الرسالة باقية بتمامها، وأن محمدًا عليه الصلاة والسلام قد بلّغ وأدى الأمانة، فاستطاعوا أن يواجهوا المحنة الكبرى بنفس القوة التي غُرسَت فيهم بالوحي، فكانوا بحق خير أمة أُخرجت للناس.


 الدكتور:عمار الحريري
 عضو بشبكة البحث المقاصدية

Share it on your

Start a Conversation:

Your email address will not be published. Required fields are marked *