المجتمع
المقاصد في التصور المؤسسي المركب هي بُعد الغايات والأهداف للمؤسسات على كل المستويات، وتقييم الواقع من خلال تحقيق تلك الأهداف هي مقاربة مستقبلية ونقدية وشاملة كما ذكرنا، وذلك حتى يعاد توجيه الرؤى والأهداف والمهمات والهياكل المؤسسية في ضوء المقاصد الأصيلة التي يصل إليها المجتهدون ويرضونها كأهداف تسعي إليها المؤسسات في سياقات مقاصد الأمة والإنسانية بشكل أوسع.
والمفاهيم هي بُعد الأفكار والتعبيرات التي تعبر عن الواقع على كل المستويات، وقد جد في عالمنا مفاهيم دخلت في تعريف الواقع ودراسات الخطط بعيدة المدى، كالسلطة الناعمة، وتأثير الفراشة، ونظرية الفوضى، والمنظومات، والحوكمة، والفعل المدني، وشبكات التواصل، والفيضان المعلوماتي، والتاريخ الموازي، والسيناريوهات، والشراكات، وما إلى ذلك. ولابد إذن للمجتهد التخطيطي من بعض العمق في استيعاب تلك المفردات ودمجها في تصوره من خلال المنهجية المقاصدية، وذلك بالإضافة للتعمق في تصور بعض مفاهيم الوحي الأصيلة في السياق الواقعي، كالأرض، والإنسان، والشعوب، والإصلاح، والحكم، والخير، والعدل، والقسط، والحق، إلى آخره، وأن يتجاوز التحيزات والانحرافات الثقافية التي طرأت على تلك المفاهيم إلى نظرة أوسع على الواقع ورؤية شاملة.
ويتعلق بالمفاهيم تعريف الفئات، وقد جد في عالمنا أيضاً فئات أصبحت جزءً من توصيف الواقع وتحتاج إلى وعي خاص للمشتغلين بالتخطيط، كنادي الواحد بالمائة، وجماعات المصالح، وأصحاب الحصص أو المالكين، وأصحاب الشراكات، والداعمين، والإرهابيين، والدبلوماسيين، والحركيين، والنشطاء، ومن إليهم، ولابد للمجتهد التطبيقي كذلك أن يتجاوز التحيزات المغرضة في تصنيف الفئات إلى نظرة أوسع وأصدق، وأن يمتلك الجرأة على إعادة تصنيف الفئات في رؤيته وتصوره من خلال المنظور الإسلامي الرشيد ومن خلال الفئات التي يعرفها الوحي، كما ذكرنا آنفاً.
وإدراك الواقع لابد أن يمر عبر إدراك التاريخ كما أشرنا إلى ذلك في المقدمات، وتاريخ الإسلام خصوصاً – بالمعنى الشامل للتاريخ الإنساني كما مر – وتاريخ الظاهرة أو المجتمع أو المؤسسة الذي يتعامل معها المجتهد التخطيطي على درجة من الأهمية حتى يقيس الحاضر على الماضي حسب السنن الإلهية في التداول والتدافع والدورات والتغيير والتنوع وغيرها، ولكن عليه أن يحذر من قياس مع الفارق للتاريخ على الواقع، فكلما بعدت السنين والقرون كلما كان القياس تقريبياً واحتمال الخطأ فيه أكبر، والتاريخ يكتبه المنتصرون على أي حال وكثيراً ما يكونون من أهل البغي لا من أهل الصلاح، بل يعلمنا القرآن أن أصحاب الأهواء يحرّفون حتى تاريخ الأنبياء وما أُنزل من عند الله من الكتاب. ولذلك فالتاريخ الدقيق الثابت هو فقط ما نتعلمه من الوحي، ولكنه يتطلب وعياً مركباً بالأسباب والمسببات حسب السنن الإلهية وفي ضوء دروس الوحي في تاريخ صراع الحق والباطل. ولابد كذلك من اهتمام خاص – كما استنبطنا من دراسة الوحي – بدور الصناعات الإبداعية والقوة الجماعية والتعليم الشامل والقيادة الحكيمة والحوكمة الرشيدة في القيام بتغييرات تاريخية، فأثر هذه العوامل كلها من السنن الإلهية في التغيير.
والحصيلة في تصور الواقع لابد أن تكون شبكة من العلاقات المركبة التي يوصّف بها المجتهد الواقع من حوله في صورة مجموعة من العناصر المتفاعلة التي تمثل تصوره عنه، حتى يخرج بقدر الإمكان من النظرات التجزيئية إلى التركيب والمنظومية في حساب السيناريوهات واحتمالات المستقبل ويتجاوز إدارة الأزمة وإطفاء الحرائق إلى الإدارة بعيدة المدى والحوكمة الرشيدة علي كل المستويات.
ولابد أن يستهدف المجتهد المؤسسي خطة مستقبلية بعيدة المدى – قد نسميها استراتيجية – تشتمل على ما هو شائع في أدبيات الإدارة من عناصر، ألا وهي الرؤية، والمهمة، والأهداف الطويلة والقصيرة المدى، والفرص، والأخطار، والقدرات، وأوجه القصور، والفاعلين، والهيكل المؤسسي، وحساب الميزانيات، وطرق الدعاية والنشر، واللوائح التنظيمية والأخلاقية، وما إليها، ولكن لابد أن يحذر المجتهد من الشكلية الشائعة في هذه الخطط، ومن الأدلوجات غير الإسلامية في تصور مقاصدها ومفاهيمها وقيمها وفئاتها وأوجه النشاط فيها. والحق أن كثيراً من المؤسسات خاصة الإسلامية تضع خططاً مهنية وتطبعها طبعات أنيقة، ولكن التنفيذ العملي والممارسة اليومية تكون في واد آخر غير الذي وضعت له الخطط، فلابد إذن من العمل على تفعيل الخطط بعيدة المدى في هيكلة المؤسسة نفسها وفي الثقافة المؤسسية السائدة والتي يتحرك أعضاؤها في جوها.
وهنا يأتي دور القيادة الرشيدة، والتي تشهد أزمة إسلامية وإنسانية في عصرنا وتحتاج إلى دراسات خاصة واهتمام واسع في سياق تخليص الأمة والإنسانية من أزماتها المعاصرة، ولا يصح أن يتصور المخططون حركة عدالة اجتماعية ولا ثورة شعبية ولا تغييراً حقيقياً بلا قيادة واضحة وحازمة وحاسمة، وهذه من سنن الله التي لا تحيد كما يعلمنا الوحي، فلابد إذن من تكوين قيادات إسلامية تفقه الأبعاد التغييرية المنشودة وتتعامل مع تركيبها. لابد من التركيب بين التعامل مع مستجدات الواقع الملحة والأزمات الطارئة، وبين اتخاذ القرار بأولوية العمل على تحقيق الأهداف البعيدة ولو لم يكن الواقع ضاغطاً من أجلها، وفقه عمر في مسألة ترك الأرض المفتوحة لأصحابها وأخذ الخراج بدلاً من تقسيم الأرض واستعباد الناس مثال فريد على النظر بعيد المدى، تعامل فيه الفاروق من خلال دورات لتدبر القرآن إلى أن وصل لصيغة مركبة ومتوازنة في ظلال معاني الوحي.
والحصيلة في تصور الواقع لابد أن تكون شبكة من العلاقات المركبة التي يوصّف بها المجتهد الواقع من حوله في صورة مجموعة من العناصر المتفاعلة التي تمثل تصوره عنه، حتى يخرج بقدر الإمكان من النظرات التجزيئية إلى التركيب والمنظومية في حساب السيناريوهات واحتمالات المستقبل ويتجاوز إدارة الأزمة وإطفاء الحرائق إلى الإدارة بعيدة المدى والحوكمة الرشيدة علي كل المستويات.
ولابد من التركيب كذلك بين تصور القيادة المؤسسية المبني على دراسات نظرية وتطبيقية مستقصية، وبين تصورات الجمهور الداعم، ذلك لأن أكثر الناس لا يعلمون ولا يفقهون ولا يشكرون كما يعلمنا الوحي، وطغيان العامة يضغط على المؤسسات أحيانًا أكثر من طغيان القوى الأخرى السياسية والاقتصادية، ولذلك وجب التوازن والتركيب بين السياسات العامة التي ينبغي اتخاذها للصالح العام، وبين كسب أرضية سياسية.
والتركيب يكون أحياناً بين الاعتبارات الفردية لأفراد ذوي حساسية خاصة، وبين الاعتبارات العامة التي تخص المجتمع، والتركيب بين الدعوة لمعان معينة بقوة، وبين محاولة تغيير المسار والدعوة لمعان مختلفة حين تتغير السياقات والظروف، والتركيب بين الوضوح والشفافية، وبين شيء من السرية في تفاصيل الخطط من أجل الإبقاء على التأييد العام لها دون الدخول في جدل التفاصيل التي تختلف فيها الاجتهادات.
ثم هناك أبعاد تركيبية أخرى للخطط المؤسسية تحتاج القيادات أن تدرسها وتنزلها على الواقع المعقد، منها التركيب بين دائرة المسؤولية المباشرة في منطقة أو مؤسسة بعينها، وبين المسؤولية عن الأمة الإسلامية ككل بل عن الإنسان حيثما كان، ويتفرع عن ذلك التركيب بين الانكفاء على مشكلات الداخل، وبين توسيع دوائر الشراكات مع الآخرين، والتركيب بين بقاء القيادة في أدائها لدورها خاصة بعد سنين طويلة من الخبرة، وبين توريث الراية واستمرارية القيم التي تمثلها تلك القيادات مع تنازلها عن كراسيها. وهذه كلها أمثلة من قضايا الاجتهاد المؤسسي التي ليس لها إجابة واحدة حتمية بل تحتاج إلى دورات تدبر مع الوحي الكريم، وتصور مركب للتاريخ والواقع وسيناريوهات المستقبل، ودراسة وموازنة وتوفيق، وإذا لم يكن عون من الله للفتى … فأول ما يجني عليه اجتهاده.
وهنا يأتي دور القيادة الرشيدة، والتي تشهد أزمة إسلامية وإنسانية في عصرنا وتحتاج إلى دراسات خاصة واهتمام واسع في سياق تخليص الأمة والإنسانية من أزماتها المعاصرة، ولا يصح أن يتصور المخططون حركة عدالة اجتماعية ولا ثورة شعبية ولا تغييراً حقيقياً بلا قيادة واضحة وحازمة وحاسمة، وهذه من سنن الله التي لا تحيد كما يعلمنا الوحي، فلابد إذن من تكوين قيادات إسلامية تفقه الأبعاد التغييرية المنشودة وتتعامل مع تركيبها. لابد من التركيب بين التعامل مع مستجدات الواقع الملحة والأزمات الطارئة، وبين اتخاذ القرار بأولوية العمل على تحقيق الأهداف البعيدة ولو لم يكن الواقع ضاغطاً من أجلها، وفقه عمر في مسألة ترك الأرض المفتوحة لأصحابها وأخذ الخراج بدلاً من تقسيم الأرض واستعباد الناس مثال فريد على النظر بعيد المدى، تعامل فيه الفاروق من خلال دورات لتدبر القرآن إلى أن وصل لصيغة مركبة ومتوازنة في ظلال معاني الوحي.
والحصيلة في تصور الواقع لابد أن تكون شبكة من العلاقات المركبة التي يوصّف بها المجتهد الواقع من حوله في صورة مجموعة من العناصر المتفاعلة التي تمثل تصوره عنه، حتى يخرج بقدر الإمكان من النظرات التجزيئية إلى التركيب والمنظومية في حساب السيناريوهات واحتمالات المستقبل ويتجاوز إدارة الأزمة وإطفاء الحرائق إلى الإدارة بعيدة المدى والحوكمة الرشيدة علي كل المستويات.
مشروع للأمة: شبكات الاجتهاد المقاصدي
والدراسات المختلفة التي تقترحها المنهجية المقاصدية وتنفيذ الخطط المؤسسية المتولدة عنها يحتاج إلى اجتهاد جماعي متعدد الأبعاد لتفعيله، وأفضل نظام نتعلمه من السنن الإلهية في تحقيق مقاصد الخالق من الخلق هو النظام التواصلي المقاصدي، وها قد عدنا من حيث بدأنا في هذه المحاضرات. ولذلك فلابد من صناعة شبكة تفاعلية من المجتهدين المقاصديين على كل المستويات، لكي تترجم الاجتهاد المقاصدي إلى تصور نظري وواقع معيش، وهذه الشبكة تتكون من مجموعة من الشبكات الفرعية المقسمة على أنواع الدراسات الأربعة السالفة الذكر، أي دراسات الأصول، والدراسات التخصصية، ودراسات الظواهر، ودراسات المؤسسات، ولها أبعاد ثلاثة حسب الأبعاد التفعيلية المقترحة، وهي البحث والتعليم والمؤسسات.
والقدرة على التفاعل بين الدوائر المختلفة من أنواع المجتهدين الذين ذكرناهم – المؤصِل ودارس الظواهر والمتخصص والمخطط – هي من شروط الاجتهاد عندهم جميعًا، وهكذا تتكامل الجهود طبة لشبكة الاجتهاد المقاصدي، ويرتفع فيها مستوى التطبيق من التأصيل النظري إلى التفعيل المؤسسي، ويتنزل في نفس الوقت مستوى التنظير من رفع الواقع إلى إعادة صياغة التخصصات والبحوث. ولأن هذا النشاط الإنساني المتنوع مرتبط في كل أبعاده المنهجية بشبكة معاني الوحي والتصور الكوني المستمد من الوحي، والذي يقع في قلب كل هذه الدوائر المتفاعلة، فإننا نرجو من الله تعالى بذلك أن يتغير واقعنا المعاصر نحو تحقيق مقاصد الخالق تعالى من خلقه، نحو ما فيه صلاح أحوالهم في المعاش والمعاد.
لمزيد من المعلومات